التصوف وعلاقته بالتشيع

الخميس 11/يوليو/2019 - 01:00 م
طباعة حسام الحداد
 
قام الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق بوضع دراسة عن حقيقة التصوف ومصادره وحقيقة العلاقة بينه وبين التشيع، التي اشار فيها الي تاريخ التصوف وتقسيم اهل السنة والجماعة، ورموز الصوفية من اهل البيت والصحابة ، بالإضافة الي علاقة الصوفية بالتشيع ، وتقسيمه للشيعة منهم الشيعة المعتدلة والشيعة المغلاة.
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فالإجابة عن هذا السؤال تنقسم إلى ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول : هو تعريف التصوف وحقيقته، والجزء الثاني : هو مصادره. والجزء الثالث : هل له علاقة بالتشيع ؟

أولا : حقيقة التصوف وتعريفه :

لقد عرف الصوفية التصوف بتعريفات شتى تزيد على المئين. وقد جمع منها نيكلسون ثمانية وسبعين تعريفا من مصادر مختلفة(تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني) وعلق على تعددها وتنوعها بقوله : "وكذلك حال الذين يعرضون للتصوف بالتعريف، لا يستطيعون إلا أن يحاولوا التعبير عما أحسته نفوسهم، ولن يكون تعريف مفهوم يضم كل خفية من الشعور الديني المستكن لكل فرد، ما دامت هذه التعريفات، على أية حال، تصور باختصار لائق بعض وجوه التصوف وخصائصه"( نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه)، وهذا القول سيكون في غاية الدقة لو ربط بالأحوال والمقامات، لا بوجوه التصوف، كون التصوف لا تعدد فيه وجوهه، وإنما التعدد في أحواله ومقاماته التي ينبني عليها الوجه الأوحد للتصوف وهو التوجه لفاطر السموات والأرض في كل حال يظهر هذا الوجه في قوله تعالى : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} و{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ})، ولكن تنوعت الأقوال في تعريف التصوف وتكثرت، تبعا لتنوع الأحوال والمقامات. وخير شاهد نسوقه هنا هو قول الصوفية أنفسهم من أن "الصوفي ابن وقته"(عوارف المعارف)

بعض النماذج التي جرت على ألسنة الصوفية في معنى التصوف:

أولا : قال معروف الكرخي (ت 200) : "التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق" (الرسالة القشيرية، عوارف المعارف) مشيرا في جزئه الأول إلى طبيعة الجانب المعرفي للتصوف، وهو معرفة حقائق الأشياء وجواهرها، وعدم الاكتفاء بما تعطيه ظواهرها.
 أما الجزء الآخر من التعريف فيشير إلى مقام الزهد، وهو التخلي عما في أيدي الناس من أملاك رغبة في الله تعالى وبمثل ذلك يقول ذو النون المصري عن الصوفي : "الصوفي من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق".( طبقات الصوفية).

ثانيا : سئل سمنون (ت 290) عن التصوف فقال : "أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء"( اللمع، الرسالة القشيرية) والعلاقة هنا بين المالك والمملوك علاقة تبادلية، فالمالك للشيء يكون مملوكا له، كالمال، فهو مملوك وفي الوقت نفسه مالك لقلب صاحبه ويده، فإن تملك شيئا ولا يملكك شيء، هذا يعني التحقق بمقام العبودية الخالصة حيث تحررت من رق الأكوان وأصبحت عبوديتك خالصة لله وحده.
 حتى إن رزقك الله المال فلا تملكه وإنما تحوزه وتوزعه فيما أراد مالكه الحقيقي وعلى هذا كان دعاء أهل الله "اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا".

ثالثا : قال عمرو بن عثمان المكي (ت 291) : "التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولا بما هو أولى في الوقت"( عوارف المعارف). 
وقال أحمد الجريري (ت 304 أو 311) : "التصوف مراقبة الأحوال ولزوم الأدب"( الرسالة القشيرية) .
وقال أبو بكر الشبلي (ت 334) : "التصوف ضبط حواسك ومراعاة أنفاسك"( طبقات الصوفية) وهذه التعريفات كلها تنطلق من حال المراقبة، وبها يتمكن العبد من أداء أعماله على الوجه الأكمل، وكما أريد لها أن تكون. 
وحال المراقبة مستفاد من الإحسان في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فأن لم تكن تراه فإنه يراك"( البخاري)..
رابعا : سئل الجنيد (ت 297) عن التصوف فقال : "هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به"( الرسالة القشيرية) وهو قول صادر من حال الفناء، وفيه يفنى العبد عن رؤية نفسه بنفسه ليراها برؤية الله له، فتكون رؤيته بالله ولله ولا حظ للنفس فيها. 
ويدخل في المعنى نفسه قول أبي نصر الطوسي (ت 378) : "إسقاط رؤية الخلق ظاهرا وباطنا" (طبقات الصوفية) وهو رؤية الكون على حقيقة أنه قائم بالله لا بنفسه، وأن حقيقته العدم، ولولا قيام الوجود الحق به لما ظهر، أي لما وجد. وهذه الحقيقة لا تدرك إلا من حال الفناء.
خامسا : سئل رويم (ت 303) عن التصوف فقال : "استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد»"( اللمع، عوارف المعارف) ناظرا إلى التصوف من مقام الرضا، الذي يحمد فيه الله على السراء والضراء، إذ لا مجال للاعتراض أو السخط على إرادة الله ومشيئته. والمعنى نفسه نقرأه عند أبي سهل الصعلوكي (ت 387) : "التصوف، الإعراض عن الاعتراض"( الرسالة القشيرية).
سادسا : وهو لـ"رويم" أيضا: وفيه ينتقل بتعريف التصوف من مقام الرضا إلى مقامي الفقر والتوكل. يقول : "التصوف مبني على ثلاث خصال، التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التصرف والاختيار" (الرسالة القشيرية).
سابعا : قيل لعلي الحصري، من الصوفي عندك ؟ فقال : "الذي لا تقله الأرض ولا تظله السماء" (الرسالة القشيرية) وينبه القشيري (ت 465) إلى هذا التعريف قائلا : "إنما أشار إلى حال المحو"( الرسالة القشيرية). هذه جملة من التعريفات، وكل واحد منها يتكئ في معناه على أحد المقامات أو الأحوال بل إن كثيرا منها ينفتح على بعضه بعضا دون أن يكون بينها كبير اختلاف.
 كما أن المسئول الواحد عن تعريف التصوف أو الصوفي قد يجيب بغير معنى، انطلاقا من المقام أو الحال الذي يكون غالبا عليه في أثناء الإجابة، أو مراعاة لحال السائل . 
ولذلك اختلفت العبارة، والمعنى المشار إليه واحد، وهو كما قال القائل إيقاظ النائمين :"  باراتنا شتى وحسنك واحد ** وكل إلى ذاك الجمال يشير".
ولئن كان مفهوم التصوف، في أحد جوانبه المهمة، يستند إلى ثنائية المقامات والأحوال، فإنه من جانب آخر، يغترف من معين الأخلاق الإسلامية. وقد أثرنا ذكر هذا الجانب بمعزل عن التعريفات السابقة ؛ لأنه دعامة قائمة بعينها في استكمال مفهوم التصوف، فلا تصوف بلا أخلاق. ولعل مستند الصوفية الأخلاقي ينبع من عين الآية القرآنية التي يمدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : 4]. 
ثم ما ورد في السنة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". "رواه مالك في الموطأ".
ولذلك تجد الصوفية يعتدون بهذا الأصل أيما اعتداد، والتصوف عندهم مقرون بالأدب دون منازع. قال أبو حفص النيسابوري (ت 270): "التصوف كله أدب. لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول"( طبقات الصوفية) وقال محمد بن علي القصاب (ت 275) أستاذ الجنيد : "التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام" (اللمع، الرسالة القشيرية).
وقال أبو محمد الجريري (ت 311) إن التصوف هو : "الدخول في كل خلق سنى، والخروج من كل خلق دني"( اللمع) ونسب الهجويري قولا للإمام محمد الباقر عليه السلام (ت 113 أو 117) قوله : "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف"( كشف المحجوب) بل إن أبا الحسين النوري (ت 295) يتجاوز البعد المعرفي للتصوف ليقيم أصوله على الأخلاق وحسب. قال : "ليس التصوف رسوما ولا علوما، ولكنها أخلاق"( طبقات الصوفية).
ولعل النوري عدل إلى هذا الرأي لشيوع أدعياء التصوف في عصره الذين يتمسكون بالمعرفة الصوفية النظرية دون العمل بها. ومن المعروف أن المعول عليه في المعرفة عند الصوفية هو تلك المعرفة الذوقية الصادرة عن حقيقة المجاهدة بالشريعة.
وهناك أقوال أخرى غير قليلة تعتمد البعد الأخلاقي في الترجمة عن مفهوم التصوف، مما يدل على أن الأخلاق السنية قاعدة لا غنى عنها في إحكام مبنى التصوف ومعناه. ولقد ظلت هذه القاعدة ثابتة وممتدة حتى عصر ذروة التصوف مع ابن عربي (ت 638) الذي تبنى مقولة أسلافه من أن "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف"( الفتوحات المكية).
والسؤال الذي يبقى قائما هو : هل تمكن الصوفية من وضع تعريف جامع مانع للتصوف، بحيث يشتمل على الجانب المعرفي والجانب الأخلاقي، فضلا عن ركني المقامات والأحوال؟
لعل الجنيد، وهو المنعوت برئيس الطائفة، يلقي الضوء على هذا التساؤل فمن أقواله الجامعة في تعريف التصوف : "تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة"( التعرف لمذهب أهل التصوف ، وورد في طبقات الصوفية).
 وهذا التعريف على طوله يختصر في شقين، الأول يتمثل في مجاهدة النفس على وفق الشريعة المحمدية، والآخر في إدراك الحقيقة، زبدة الشريعة، وبهذين الشقين يكتمل معنى التصوف. ولكن بما أن المصطلح يجنح إلى الإيجاز، وإفادة المعنى بأقل قدر ممكن من الألفاظ، فقد نجد مبتغانا عند أبي بكر الكتاني الذي يعرف التصوف بأنه : "صفاء ومشاهدة", فالصفاء، هو المعبر عنه بمجاهدة النفس (= الوسيلة) والمشاهدة، هي المعبر عنها بالحقيقة (= الغاية) والحقيقة عند الصوفية، شهادة أن لا إله إلا الله كما شهدها الله عز وجل في حق نفسه، والملائكة، وألوا العلم(قضية التصوف)، وذلك في قوله تعالى : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران : 18] وبذلك يكون هذا التعريف مؤهلا للتعبير عن معنى التصوف، من ناحية فنية وموضوعية؛ لكونه مختصرا، ومشتملا على وسيلة الصوفي في الوصول إلى حقيقة التوحيد.
ثانيا : مصادر التصوف :
لقد كثر الخلاف في مصادر التصوف على أن البحث هنا لن يدخل في معترك الخلاف بقدر ما سيحاول استخراج أركان إسلامية عامة تستحق أن تكون أصولا للتصوف. ولقد كان الصوفية الأوائل، ولا سيما المعنيون بتأريخ التجربة الصوفية، قد تصدوا لبيان هذه المسألة، فاستخرجوا من مصدري التشريع الإسلامي، الكتاب والسنة، ما يؤكد شرعية التصوف، وانتماءه الأصيل للإسلام. 
وها هو ذا الطوسي يذهب إلى تقييد التصوف بأربعة أصول إسلامية هي(اللمع): -
 1- متابعة كتاب الله عز وجل.
2- الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
3- التخلق بأخلاق الصحابة والتابعين.
4- التأدب بآداب عباد الله الصالحين. 
وبما أن التصوف عند أول تكونه أخلاقا دينية، فمن الطبيعي أن يكون مصدره الأول إسلاميا، فقد استمد من القرآن والسنة وأحوال الصحابة وأقوالهم، على أن أقوال الصحابة رضي الله عنهم لم تكن تخرج عن الكتاب والسنة، وعلى هذا يكون المصدران الأساسيان للتصوف في الحقيقة هما القرآن والسنة، ومن القرآن والسنة استمد الصوفية أول ما استمدوا آراءهم في الأخلاق والسلوك، ورياضاتهم العملية التي اصطنعوها من أجل تحقيق هدفهم من الحياة الصوفية. (مدخل إلى التصوف الإسلامي).
فما من شيء يتحدث عنه فقهاء السَّيْر إلى الله ممن اجتمعت لهم شريعة وتَحَقُّق إلا وله أصله الأصيل في الكتاب والسنة(مذكرات في منازل الصديقين والربانيين)، ويتفق الجميع على ضرورة ووجوب الرجوع إلى مصدري الإسلام: الكتاب والسنة، وعدم الخروج عليهما عقيدة ولا شريعة ولا سلوكا، ورد ما خرج عنهما من اعتقادات أو تشريعات أو سلوكيات، فأصول التصوف عند الصوفية الحقيقيين هي الكتاب والسُّنَّة وما يرجع إليهما من مصادر التشريع الأخرى التي ذهب إليها علماء الأمة.
فهذا الإمام الجنيد سيد الطائفة يقول: "مذهبنا -ويقصد التصوف- مُقَيَّد بأصول الكتاب والسنة". وقال أيضا: "الطُّرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم واتّبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه"( الرسالة القشيرية). 
وقال الإمام القشيري: "إن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم".( الرسالة القشيرية).
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "من دعا إلى الله بغير ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مُدَّعٍ". وقال أيضا: "ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾" [السجدة: 24].
وقال أيضا: "إذا عارض كشفُك الصحيحُ الكتابَ والسنةَ فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام". (إيقاظ الهمم). 
وقال الإمام الشاطبي عن الصوفية: "إن كثيرًا من الجُهَّال يعتقدون فيهم –أي الصوفية- أنَّهم متساهلون في الاتِّباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشَّرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتِّباع السنة واجتناب ما خالفها" ( الاعتصام) .
وقال أيضا: "إن الصوفية هم المشهورون باتِّباع السنة، المقتدون بأفعال السلف الصالح، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التَّام والفرار عما يخالف ذلك، ولذلك جعلوا طريقتهم مَبْنِيَّة على أكل الحلال واتِّباع السُّنَّة والإخلاص وهذا هو الحق".( الاعتصام).

علاقة التصوف بالتشيع :

في البداية لا يمكن أن نعد التصوف الإسلامي مذهبا عقائديا، كالمعتزلة، والخوارج، والشيعة، ولا يمكن أن نعدهم كذلك مذهبا فقهيا كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. ولكن التصوف الإسلامي منهج التربية الروحي والسلوكي الذي يرقى به المسلم إلى مرتبة الإحسان، التي عرفها النبي صلى الله عليه وسلم : "أن تعبد الله كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( أحمد ، والبخاري ، ومسلم). 
فالتصوف برنامج تربوي، يهتم بتطهير النفس من كل أمراضها التي تحجب الإنسان عن الله عز وجل، وتقويم انحرافاته النفسية والسلوكية فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الله ومع الآخر ومع الذات.
والشيعة هم الذين انتحلوا التشيع لعلي كرم الله وجهه، وقالوا إنه الإمام بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنص الجلي أو الخفي وأنه الوصي بعده بالاسم أو الوصف دون الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وأن الإمامة لا تخرج عنه ولا عن أولاده وإن خرجت فبظلم من غيرهم أو بتقية منه أو من أولاده.
وربما كان للخلافات السياسية والحربية التي حدثت في نهايات عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أثر كبير في نشأة بعض الفرق العقائدية كالشيعة والخوارج وغيرهم.
والشيعة الإمامية –وهم أغلب الشيعة- فرقة من المسلمين إلا أنها أخطأت حينما خالفت المسلمين في تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سائر الصحابة الكرام، والطعن على خلافة من سبقه، بل والنيل من أغلب الصحابة والوقوع في سبهم ولعنهم، فهذه طامات كبرى أوغرت قلوب أهل السنة والجماعة.
إلا أنهم لا يكفرون بهذه المخالفات غير المقبولة، لأن المسلم لا يكفر بسب المسلم ولعنه، وإن كان من وقعوا فيهم بالسب واللعن هم خير المسلمين على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم متأولون، بل ولا يرونهم صحابة أصلا، ولذا فإن الشيعة الإمامية وهم الكثرة الغالبة من الشيعة في زمننا هذا من المسلمين مع مخالفتهم لمنهج أهل السنة والجماعة في باب الصحابة رضي الله عنهم من المسلمين. 
ولم يقتصر الخلاف بين أهل السنة والجماعة والشيعة على باب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ولكن هناك أمور أخرى تمثل أسس الخلاف بين أهل السنة والجماعة.

فرق الشيعة المغالاة

والشيعة فرق أخرى متعددة منها ما تطرف في التشيع حتى خرج عن ربقة الإسلام بمزاعم مُكَفِّرة ومعتقدات باطلة، فمنها فرقة تزعم أن الإله قد حلَّ في علي وأولاده وأنه قد ظهر بصورتهم ونطق بألسنتهم وعمل بأيديهم، ومن هذه الفرق التي ضلت الإسماعيلية والبهرة، والدروز. 
ومن عقائد بعض فرق الشيعة الغلاة القول بتحريف القرآن، وتكفير الصحابة، وعدم أحقيَّة خلافة الخلفاء الراشدين الثلاث الأوائل: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. ويرى متبعي الشيعة أن الإمامة منصوص عليها ومحددة من قبل الله، بينما يرى أهل السنة أن الإمامة لم يتم تحديدها من قبل الله، والإمامة فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده وليست خاصة لأحد.

الصوفية من اهل السنة:

ومع كون الصوفية ليسوا مذهبا عقائديا إلا أنهم ينتمون لمذهب أهل السنة والجماعة، وعدهم علماء التوحيد من أهل السنة والجماعة. 
يقول ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب : "اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك. وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف : 
الأولى : أهل الحديث، ومعتقد الأدلة السمعية- الكتاب والسنة والإجماع.
الثانية : أهل النظر العقلي وهم الأشعرية والحنفية (الماتريدية). وشيخ الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.
وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسائل.
الثالثة : أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية. ومباديهم مبادي أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية"( إشارات المرام من عبارات الإمام).
ويقول الإمام محمد أحمد السفاريني الحنبلي : "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق : الأثرية : وإمامهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
والأشعرية : وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.
والماتريدية : وإمامهم أبو منصور الماتريدي" ( لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، شرح الدرة المضية على عقائد الفرقة الناجية).
وأغفل السفاريني الصوفية لا لأنه لم يعدهم من أهل السنة والجماعة، وإنما لأنه لم يعدهم مذهبا عقائديا، بل هو مذهب سلوكي –كما أسلفنا- فلم يستقل الصوفية بمذهب في إثبات قضايا التوحيد، بل كانوا يتبعون في العقيدة أهل السنة والجماعة إما بموقف أهل الحديث، أو موقف الأشاعرة والماتريدية.

اعلام التصوف:

كما نجد كثيرا من كتب طبقات الأولياء كالحلية وطبقات الشعراني تبدأ بترجمة الخلفاء الراشدين الأربعة على ترتيبهم عند أهل السنة فتبدأ بذكر أبى بكر الصديق فعمر بن الخطاب فعثمان بن عفان فعلى بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين، ومن جهة أخرى فإن أعلام التصوف السنيين - وكثير منهم من الأشراف المنتسبين لآل البيت – مذكورون في كتب طبقات التصوف وكتب التاريخ المختصة بأعلام أهل السنة، ولا ذكر لهم في كتب أعلام الشيعة.
كما سنجد في أعلام التصوف كثيرين من أشراف آل البيت، سنجد أيضا فيهم كثيرين ممن ينتسبون – من حيث النسب – إلى سيدنا أبى بكر الصديق كالسادة البكرية بمصر، ومنهم من ينتهي نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب كالشيخ محمد بن عنان وهو من كبار أولياء مصر وإليه ينتهي نسب السادة العنانية بمصر، وله ترجمة في طبقات الشعراني، وكذلك الشيخ العارف الكبير الإمام الرباني أحمد السرهندي الفاروقي مجدد الألف الثانية، وكذلك الشيخ خالد ضياء الدين وينتهي نسبه إلى سيدنا عثمان بن عفان، وكلاهما من كبار رجال النقشبندية وعليهما تدور سلاسل هذه الطريقة. 
ومن جهة أخرى فليس في طبقات الصوفية التي بين أيدينا ترجمة لأحد من أعلام الشيعة، إلا من كان من الشخصيات الإسلامية العامة كسيدنا على بن أبى طالب أو ابنيه السيدين الحسن والحسين، وغيرهما من أعلام آل البيت الذين لا تختص بهم فرقة دون أخرى، ولا يعنى ترجمة أحد منهم في رجال التصوف أن التصوف صار شيعيا.
ومن جهة الممارسات اليومية فسنجد مثلا رايات الطرق الصوفية مثلا تكتب في أركانها أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة (أبو بكر – عمر – عثمان – على)، وهو ما يؤكد سنية هذه الطرق.

خاتمة

كل ما تقدم يؤكد على سريان أصول أهل السنة والجماعة في التصوف السني بداية من الأصول النظرية والفكرية ومرورا بالأعلام والرجال وانتهاء بالممارسات اليومية.
بهذا تبين لنا أن أصول الشيعة وعقائدهم تخالف أصول الصوفية السنيين جملة وتفصيلا، أما ما قاله البعض من أن الصوفية شاركت الشِّيعَة في الْمُغَالاة في حُبِّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذريَّته، فأمر مردود؛ لأن الصوفية لم يغالوا في حُبٍّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدهم، بل أحبُّوهم وأحبوا جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف لا! وقد أُمِرْنَا بِحُبِّ آل بيت النُّبوة، قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23] فالآية تُوصِي بحبِّ قرابته صلى الله عليه وآله وسلم ومودتهم، وجعل محبتهم في أعماق قلب كل مسلم. 
والمغالاة لا تكون في المحبة، إنما تكون في الاعتقاد، فطالما كان المسلم سليم الاعتقاد فلا حرج عليه في محبة أهل البيت رضوان الله عليهم جميعا، ومحبة أهل البيت درجات يرزقها الله لمن أحبه، فكلما زاد حب المسلم لآل البيت ارتقى بهذا الحب في درجات الصالحين؛ لأن حب أهل البيت الكرام علامة على حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علامة على حب الله عزَّ وجل، وفي هذا المعنى 
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي.
واختم مفتي الجمهورية السابق :"وبهذا العرض نكون قد وقفنا على حقيقة التصوف، ومصادره، وحقيقة العلاقة بينه وبين التشيع، وعلمنا أن التصوف الإسلامي يتبع مذهب أهل السنة والجماع، والله تعالى أعلى وأعلي".

شارك