محمد ابو قمر: نظريات الاسلام السياسي مثل لعبة عتيقة تشوهت بفعل الزمن ولم يعد لها قوام

الثلاثاء 24/أبريل/2018 - 01:20 م
طباعة
 
يمثل الكاتب والروائي محمد أبوقمر نموذجا مهمًا من الفكر النقدي المشتبك مع أطروحات وممارسات جماعات ورؤي الإسلام السياسي وله رؤية متكاملة عن تجديد الخطاب الديني وهي القضية المطروحة علي أجندة أغلب المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن.
أبو قمر، كاتب من المحلة الكبري حاصل علي بكالوريوس التجارة - جامعة المنصورةعمل محررا في مجلة "الرافعي " ثم مديرا لتحريرها وهي مجلة أدبية سياسية جامعة كانت تصدرها مديرية الشباب والرياضة بالغربية.   وقد توقفت الآن لكنها أصدرت أعداد مهمة اثارت الانتباه لتميز الفكر الذى طرحته علي مدار  ثلاثين عاما . ومن خلالها ساهم ابو قمر بمقالات عديدة سياسية واجتماعية  هذا الي جانب اسهامات ادبية في القصة والرواية والمسرح  وادب الطفل وحول افكاره كان لنا معه هذا الحوار 

-في البداية كيف تري الدعوة الي تجديد الخطاب الديني؟
-من أطلقوا دعوة تجديد الخطاب الديني لا يعرفون ما هو الخطاب الديني ، ولا ما هي المرتكزات التي تحدد مقاصده ، ولا يدركون كذلك من هو الذي بإمكانه إعادة النظر في هذا الخطاب ، وإحداث عملية التطوير الشاملة فيه والتي تستلزم تحطيم الأسس الفكرية التي يقوم عليها ، وهذه العملية لا يمكن أن يقوم بها رجال الدين علي الاطلاق ، لأن مراكزهم الاقتصادية والاجتماعية وحتي السياسية تعتمد اعتمادا كليا علي هذا الخطاب الذي يمثل لهم قوة ومناعة وسياجا يحيطهم بقداسة ليست لهم في الحقيقة ، أو من المفروض ألا تكون لهم علي الاطلاق.
ولذلك فإنه لا أمل علي الاطلاق في قيام رجال الدين بهذه المهمة التي من شأنها إنقاذ الأمة المصرية من عثرتها لأسباب تتعلق بمصالحهم ، ومراكزهم الاجتماعية والاقتصادية ، ونفوذهم السياسي الذي يوفره لهم هذا الخطاب الذي يستلب العقل ، ويفرضهم كأوصياء علي مستقبل المصريين وعلي مصائرهم. 
ولكي تتضح الصورة أكثر، ولكي نتخلص من تلك الخدعة المريرة التي تربط بين رجال الدين والله ، وبين خطابهم والدين ذاته فلابد من طرح سؤال عن ماهية الخطاب الديني ؟ وعما إذا كان هو الدين أم هو الطريقة التي يتم بها نقل الدين إلي الناس، وإذا كان الخطاب الديني هو مجرد طريقة لفهم الدين ونقل (رؤية ورأي رجال الدين) عنه إلي الناس ، فهل يمكننا اتخاذ سبيل مختلف لفهم الدين ونقله أم أن الخطاب الديني السائد قد اكتسب بمرور الزمن قداسة إلهية تحول دون المساس به؟؟!!!.
وبصياغة أخري أكثر واقعية ، هل يمكننا النظر في ديننا وحياتنا ومستقبلنا بطريقة عقلية غير تلك الطريقة التي يُنظر إلينا بموجبها علي أننا غير جديرين بتحمل مسئولياتنا عن أنفسنا وأنه لابد من أوصياء علينا أو وسطاء بيننا وبين الله يقومون بضمان دخولنا إلي الجنة أو بقذفنا بكلمة منهم إلي الجحيم؟؟!!   
لدينا في مصر خطابان للاسلام وليس خطابا واحدا وكما يلي
1- الخطاب السلفي: 
 وهو خطاب متنوع (جهادي ، وعلمي ، ووهابي ...إلخ )لكنه في مجمله يضرب علي وتر واحد أساسه التفسير الحرفي للنصوص والتشدد وتقديس التراث ، واعتبار النقل هو الأساس في علاج وتقييم جميع مظاهر الحياة ، وإنكار العقل إنكارا تاما ، وربما تكفير كل من يحاول إعماله في تفسير النصوص أو معالجة ما يستحدث من قضايا المجتمع، وكراهة كل محاولة للتحديث أو التطور ،وهذا الخطاب وراء كل حادثة طائفية ، وكل شعور بالكراهية ، وكل تصرف عنصري، أو إرهابي.
2- الخطاب الأشعري :
وهو الخطاب الرسمي في مصر فهو الخطاب الذي يمثل عقيدة الأزهر ، والمكون الفكري لعقلية رجاله ، وأصحاب هذا الخطاب يصفونه بالاعتدال والوسطية ، ويقولون عن أنفسهم أنهم أهل السنة والجماعة ، وأنهم هم الفرقة الناجية.
وإذا كان الخطاب الأشعري (الوسطي المعتدل) يعترف بالعقل فإنه يعود ليشترط أن يكون في النقل مايوافقه ، وفي هذه النقطة يقول سعيد بنسعيد المغربي في توضيح ماهية الخطاب الأشعري (والأمر في الأشعرية في هذا الصدد بيّن واضح فلا لبس فيه ولا تردد في الحكم في أمر العلاقة بين النقل والعقل؛ فالنقل أول والعقل ثان، والنقل مقدم والعقل تابع.. والمنقول مقدم على المعقول في الأحوال كلها منطقا وترتيبا ولا يكون الابتعاد عن النقل عند الأشعري إذا ما حدث ذلك فعلا إلا لغرض الرجوع إليه.. بل إن النقل هو الذي يعيّن للعقل ماهيته وطبيعته ويعيّن له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه).
ويمكنك ملاحظة أنه ليس ثم اختلاف جوهري بين الخطابين السلفي والأشعري ، وبالتالي ليس ثم اختلاف بين الآثار المدمرة للخطابين علي الروح وعلي العقل المستقبل كذلك. وعلي
لكل ما أوضحته لك الآن فإننا لسنا في حاجة إلي تجديد الخطاب الديني كما يشاع، ولا يمكن لرجال الدين فعل شيء ما بهذا الخصوص كما هو واضح ، وإنما نحن في حاجة إلي ثلاث عمليات استراتيجية حاسمة بدونها سنظل ندور في دائرة مفرغة لا نستطيع فيها إنجاز أي مشروع حضاري ، وبدونها سيلاحقنا الفشل ذاته الذي قوض مشروع محمد علي ، وأجهض النهضة الثقافية التي نشأت في أوائل القرن الماضي، ودمر مشروع الثورة المصرية في خمسينيات القرن الماضي.
هذه العمليات الاستراتيجية هي:
-فصل كل ما ينتسب للعقائد عما هو ثقافي ، وعما هو سياسي،وعما هو قانوني، وعما هو فكري .
-إعادة تشكيل خطاب ديني يعتمد اعتمادا كليا علي العقل، بحيث يكون هذا العقل هو محور النظر في كل ما يتعلق بالنصوص وبكافة أمور حياتنا
- احترام المنقول(التراث) ليس في فرضه علي الحاضر، ولا بجعله مناقضا للعقل وسببا في نفيه ، وإنما احترام التراث يتحقق في وضعه في المتحف كأثر حضاري يمكن الرجوع إليه لتقدير منتجيه ، والاسترشاد بكيفية صنع الأجداد لحضارتهم ، كي نتمكن نحن من إنتاج حضارتنا والمشاركة الفعالة في صنع حضارة العالم.
-ما طرحته ينقلنا الي طريقة تفكير و مشاكل العقل العربي ؟
-أما بالنسبة لمشاكل العقل العربي
العقل العربي، منفي، ومدان، ومطارد، ومحاصر ، وبمجرد أن تبدر منه أي محاولة لاثبات وجوده تتم محاصرته علي الفور وإلقاء التهم في وجهه وإدانته بلا رحمة ومن ثم معاقبته باشد أنواع العقاب التي تصل أحيانا إلي القتل.
ولا أريد أن أذكرك بأحداث الماضي التي تم التنكيل فيها بالمفكرين وأصحاب الرؤي والآراء بعد اتهامهم بالتجديف والزندقة ، وإنما من واجبنا جميعا - إذا كنّا حقيقة جادين في البحث عن أسباب خيباتنا المتلاحقة - من واجبنا إثارة الأسئلة الجادة الموضوعية حول أسباب إجهاض مشروع محمد علي في مصر - ولا يجب في هذا الخصوص أن نطمئن للإجابة التي تحاول إقناعنا بأن فشل هذا المشروع يرجع فقط لتكالب الدول الاستعمارية ضد مصر في ذلك الحين - وحول أسباب فشل المشروع النهضوي في بدايات القرن العشرين .
ولابد أن اذكرك هنا بما حدث للدكتور طه حسين حين أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي "، وما حدث للشيخ علي عبد الرازق بسبب كتابه" الاسلام وأصول الحكم " ثم علينا أن نتذكر معا ما حدث لفرج فوده ، أو الشيخ محمد عبده ، أو نصر حامد أبو زيد، وغير هؤلاء من المفكرين.
هؤلاء وغيرهم ممن تعرضوا للعسف والقهر والمطاردة وللحصار وللقتل أيضا كانوا فقط يحاولون استخدام العقل ، كانوا يحاولون احترام الرصيد الحضاري للأمة وبناء جسرا من التواصل العقلي مع تراثها المجيد، كانوا يحاولون أداء دورهم مثلما فعل أسلافهم ، فما الذي جنوه؟!!.
إننا رغم جرائمنا في حق أنفسنا مازلنا في كل مناسبة نتفاخر بأننا نحن الذين لعبنا الدور الأساسي والحاسم في إيقاظ أوربا من سباتها ، ومنحناها فرصة بناء تلك الحضارة المذهلة ، نظل نتحدث بهذه الطريقة الساذجة المثيرة للاشمئزاز ولا نريد أن نتوقف لحظة لنعرف كيف وصل الأوربيون لما وصلوا إليه من تقدم حضار وتقني وإنساني.
لقد ارتكز الأوربيون علي تراثهم الاغريقي وانطلقوا من زاوية محددة منه إلي أعلي ، لم يعيدوا إنتاج تراثهم ، ولم يقيسوا عليه أفعالهم وإنما جعلوه مرتكزا للانطلاق إلي عوالم أخري أكثر جدة وحداثة ، عوالم مغايرة قابلة للتغير وللتطور ، عوالم تتعلق بالخيال وبالأحلام، وكلما رأوا حلما حولوه إلي حقيقة ، ولم يسمحوا حتي لمعتقداتهم أن أن تحد من انطلاق خيالهم، أو أن يكون لها أي تأثير علي ديناميكية عقولهم.
ومع كل الانجازات التي حققوها فقد ظهرت في أوروبا في فترة السبعينيات من القرن الماضي تقول نحن ارتكزنا علي تراثنا وانطلقنا ن هذه الزاوية فوصلنا إلي ما وصلنا إليه، فلماذا لا نعود إلي تراثنا ثم ننطلق من زاوية أخري لنري إلي أي شيء يمكننا أن نصل!!
ولقد سُئل شيخ الأزهر ذات مرة ‘ن أسباب نهضة أوربا فقال إن أوروبا تقدمت عندما أعطت ظهرها للمسيحية !!، وأنا بدوري أسأله : هل يعني ذلك ياشيخنا أن أوروبا ألحدت لكي تصل إلي ما وصلت إليه أم أن الأوربيون أسلموا فحققوا تقدمهم بسبب إسلامهم؟؟؟!!.
إن كلام شيخنا الجليل عن إعطاء أوروبا ظهرها للمسيحية هو حلقة أخري من حلقات تغييب العقل العربي والاسلامي ، وهو إجراء متعمد لتضييق الخناق علي ذهنية ووجدان الانسان المسلم ، وتشويه وعيه ، لأن أوربا في الحقيقة تقدمت بعد أعطت ظهرها لرجال الدين المسيحي وليس للمسيحية.
-لماذا فشلت تجارب حكم الاسلام السياسي في جميع البلدان التي وصلوا فيها إلي الحكم؟
يعرف قادة الاسلام السياسي أن الله لم يكن يرغب في حكم مكة حين أرسل محمدا في قومه ، يعرفون أن الله أرسله لهدايتهم ولإخراجهم من ظلمات الجهالة إلي نور المعرفة ، يعرفون كل شيء ، ويعرفون أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم يكن إلا رسولا ، وأنه لم يكن ملكا ولا أميرا، لكن شأنهم شأن كل هواة السلطة صاغوا من بعض المفردات المتناثرة في أنحاء النص القرآني نظرية خيالية لوت عنق الاسلام وصنعت منه خلطة سياسية فضلا عما يعتريها من سذاجة فهي أيضا ضد مصالح البشر، وهي خارجة المنظومة الزمنية ، وغير قابلة للتحقق حتي في مجاهل إفريقيا حيث مازال الانسان في حالته البدائية الأولي ، لقد حولوا النص القرآني من نص إلهي يهدي به الله الناس ويرشدهم إلي كل ما هو خير ليفعلوه ، وإلي كل ما هو شر فيتجنبوه ، حولوه إلي دستور لدولة خيالية مزعومة لم يأت القرآن علي ذكرها نهائيا ، بل إنهم نصّبوا الله جل وعلا سلطانا حاكما لهذه الدولة ينيبهم هم علي وجه التحديد حكاما يعذبون المخطيء ويقتلونه ، أو يسملون عينيه ، ويقطعون يده ، ويرجمونه ، أو يجلدون ، كل حسب نوعية ما ارتكبه من جرائم ، ثم يثيبون الصالح فاعل الخير ويعدون بالجنة ، ويهدونه واحدة أو ما شاءوا من الحور العين ليستمتع بهن حسب نوعية ما أتي به من فعل حسن حسب تقييمهم .
هذا التلفيق كان جائزا في زمن كانت الحياة فيه بسيطة غير معقدة ، راكدة ، خالية من التفاعلات التي تستنهض الهمم وتحتاج إلي تغير سبل وأساليب الحياة بما يتلائم مع متغيرات تتلاحق ، كان التلفيق مناسبا حين كان اليوم كالأمس وكالغد أيضا ، وحين كانت المعاملات محدودة ، وحين كانت التجمعات الانسانية في الجزيرة العربية لا يمكن أن ينطبق عليها وصف الدولة.
في العصر الحديث حين تبلور مفهوم الدولة وصارت شروط وجودها غير منصوص عليها في النص المقدس ، وصارت الاحتياجت البشرية أبعد كثيرا من الحقوق المنصوص عليها ، وكلما مر الوقت اتسع مجال الحقوق الانسانية وزادت احتياجاتها ، ونشأت معاملات وممارسات، وبرزت الحاجة إلي سن قوانين وتشريعات تتلائم مع متغيرات يومية لم تكن متوقعة، حين أصبحت الحياة بكل هذا التعقيد والتشابك صارت نظريات الاسلام السياسي مثل لعبة عتيقة تشوهت بفعل الزمن ولم يعد لها شكل ولا قوام.
في العصور الوسطي سيطرت ذات المفاهيم الدينية عن دولة الله المقدسة ،ومارست الكنيسة في أوروبا سطوتها وسيطرتها السياسية والعقائدية ، وقد سجل لها التاريخ ممارسات مغرقة في البشاعة ضد كل من تسول له نفسه مناهضتها ، أو يستخدم عقله في إنتاج مقولات أو نظريات أو اختراعات تراها السلطة الكنسية مهددة لسيطرتها علي البلاد والعباد.
لم يعد ذلك جائزا الآن ، وصار التفكير فيه ضرب من الخبل والجنون واليأس والجهل بما وصلت إليه البشرية من أوضاع صار الدين بالنسبة لها عنصرا من عناصر وجودها وليس العنصر الحاكم أو المحدد لمسيرتها.
-ولماذا فشل رواد التنوير ان يصلوا الي القواعد الشعبية التى وصلت  اليها جماعات الاسلام السياسي؟
-حدثتك فيما سبق عما حدث لبعض المفكرين الذين حاولوا استخدام العقل (سواء قديما أو حديثا)في مواجهة عمليات نفي هذا العقل ومحاصرته بواسطة النسق العقائدي الذي تمكن من التغلغل إلي الحياة الثقافية وسيطر عليها وفرض نسقه الفكري والثقافي والمعرفي واستطاع أن يشكل به وعي الأمة بالكامل.
ولتوضيح ما يصيب محاولات التنوير من وهن أحيانا ، أو من خفوت في أحيان أخري ، وربما من فشل بوجه عام من حيث أنها لم تسطع حتي الآن أن تشكل تيارا قويا يتصف بالوحدة والتناغم ، ولتوضيح الصورة أكثر فإنني أتساءل: هل ترغب الأنظمة العربية في إحداث نهضة فكرية حقا؟؟!!. 
-هل يروق لأنظمة الحكم في العالم العربي حدوث نهضة فكرية تستنهض العقول وتدفع الشعوب للتفكير العقلاني في مصائرها؟؟!!
-هل في الأفق العربي من البحر إلي البحر أي فرصة لإحداث أي نوع من الوفاق بين المفكرين من رواد التنوير وبين السلطات الحاكمة ، أم أن الواقع يقول أن هناك دائما نوعا من التحالف بين فصائل الاسلام السياسي والسلطة يضمن دوام وجود الأنظمة ، ويضمن في ذات الوقت حرية عمل هذه الفصائل وحرية توسيع قواعدها في الجامعات والمدارس والمصانع وفي المؤسسات الحكومية ذاتها؟؟!!!!.
قد تفيدك هذه الأسئلة في الاجابة علي سؤالك ، لكن هناك أيضا عدة عوامل تحول دون انتشار عمليات التنوير التي تجاهد لإحداث ثورة فكرية يمكنها إزالة هذه الظلمة الجاثمة علي صدر الانسان العربي ، كالتعليم ، والأوضاع الاقتصادية ، ومختلف العوامل التي تحول دون قدرة عمليات التنوير إلي النفاذ عبرها لتصل إلي عقل ووجدان الانسان العربي.
-كيف نشأت السلفية وتم تشويه ثقافتنا بها ؟؟
-حتي العشرينيات من القرن الماضي لم تكن مصر تعرف ما يسمونه الآن السلفية ، وإنما كان المصريون يمارسون الاسلام بطريقتهم الخاصة ، صحيح أنهم كانوا قد تأثروا كثيرا بالفاطميين ، لكنهم كانوا قد أخذوا من الاسلام عموما ما يناسب معرفتهم القديمة بالله وتطلعهم إلي رضائه عنهم ، كانوا يؤدون الفرائض دون أن يتخلوا أبدا عما ترسخ في وجدانهم عبر تاريخهم الطويل من المحبة والتعايش والتسامح .
عندما جاء الفاطميون تأثروا بهم في كل ما يدعم أسس المحبة والبهجة والمظاهر الاحتفالية ، فاكتسي تدينهم بمسحة من التصوف الذي يعتبر الحب لآل البيت أو للصحابة هو أساس علاقتهم بالاسلام عموما.
لم يكن المصريون شيعة بالمعني المعروف الآن عن التشيع ، ولم يكن في المصريين سني واحد أو سلفي بالمعني المتداول الآن عن السلفية ، وقد كانت مصر هي التي أجهضت الدولة الوهابية الأولي وهي التي قضت علي الدولة الوهابية الثانية.
-لكن كيف تسللت الوهابية إلي مصر وتمكنت من غرس بذرتها الارهابية البشعة في أرضها الآمنة؟
--في العشرينيات من القرن الماضي كان عبد العزيز آل سعود قد استولي علي نجد وانشأ الدولة الوهابية الثالثة ، وقد كانت دولته في ذلك الحين تواجه عدة مخاطر أهمها :
1- مخاطر من الشمال حيث يحكم الأشراف الهاشميين في العراق والأردن ويتطلعون إلي استعادة ملكهم في الجزيرة العربية.
2- تزمت الاخوان النجديين الذين عاونوه بوحشيتهم في الاستيلاء علي السلطة وتدخلهم في سلطاته.
3- مخاطر من مصر التي كانت لها السيطرة الأدبية علي الحجاز آنذاك وكانت تكره المذهب الوهابي إلي حد الموت .
ورأي عبد العزيز آل سعود أنه إذا نجح في إدخال الوهابية إلي مصر واستمالة عدد كبير من المصريين للايمان بها باعتبارها الدين الاسلامي الصحيح فسوف يحقق عدة أهداف علي النحو التالي :
1- ضمان التخلص من عداء مصر للوهابية حيث سيمثل الوهابيون المصريون عناصر إشغال وضغط علي صانع القرار المصري.
2- خلق توازن اقليمي في مواجهة الخطر الموجود في الشمال ( الأردن والعراق)
3- مواجهة الاخوان النجديين والحد من نفوذهم بالتحالف مع مصر من جهة ، ومن جهة أخري مواجهة تشددهم وتزمتهم بالانفتاح علي الثقافة المصرية وعلي طريقة تدينهم الاسلامي البسيط السهل الذي يخلو من كل تشدد أو تزمت والخالي تماما (حينذاك) من أية تفاصيل سنية نسبة إلي السنة النبوية.
وهكذا جند عبد العزيز آل سعود "رشيد رضا" للقيام بمهمة إشاعة هذا الفكر في مصر ليكون وسيلته في إرساء دعائم دولته ، وكان رشيد رضا في مصر تلميذا لشيخنا الجليل محمد عبده الذي كان في ذلك الوقت يقود (بمقاييس عشرينيات القرن الماضي) حملة تنويرية في مواجهة سدنة الأزهر وأرباب الأفكار الجامدة الرجعية المتخلفة ، ولما توفي محمد عبده انقلب رشيد رضا علي تعاليم وأفكار أستاذه ، وبدأ في تنفيذ مهمته 
وقد كان معروفا في ذلك الوقت أن حسن البنا هو التلميذ النجيب لرشيد رضا والذي تمكن من تنفيذ المهمة ليس في مصر وحدها بل نقلها وإشاعتها في البلدان العربية المحيطة.
لقد تمكنت الوهابية كدين ليست مهمته التعرف علي الله وعبادته وإنما مهمته خلخلة المجتمعات وتفتيتها وإضعافها وإغراقها في الصراعات المذهبية والسياسية ، تمكنت هذه الأيدولوجية الدموية البشعة من التسلل إلي مصر وتشويه تدينها السمح ووأد بهجتها ، وتكفير تقاليدها الاجتماعية التي انبثق منها هذا النسق الأخلاقي القديم الذي ابهر العالم .
كانت عشرينيات القرن الماضي هي بداية الغرس الأسود الذي أنتج أول ما أنتج تنظيم الاخوان كثمرة بشعة لبذرة دموية مزيفة ومشوهة ، ثم توالت التواريخ التي لعبت دورا في ازدهار هذه البذرة حتي أفصحت الوهابية عن وجهها القبيح في سبعينيات القرن الماضي لتمضي رحلة القبح إلي ما وصلنا إليه الآن من تشوه واضح حتي في ملامحنا
-كيف ساهمت أموال البترول العربي بكل قوة في خراب روح الانسان العربي؟
-لهذا السؤال علاقة خفية بجميع أسئلتك السابقة ، بالرغم من أن صياغته قد تبدو وكأنها تأخذنا بعيدا عما تحدثنا بشأنه فيما سبق ، لكنك - كما يبدو لي - مدرك تماما لدور البترول العربي في إحداث هذا الخلل الحضاري بين العرب وبقية شعوب المعمورة ، وفي صناعة المؤامرات في المنطقة العربية ، وفي تزييف الحقائق الدينية ، وفي نشر الكراهية ، وتعزيز المشاعر الطائفية ، والعنصرية ، وإشاعة روح الانقسام ، وتكوين المنظمات المتطرفة ، وتمويل عمليات الارهاب ، والتمرد ، وتعطيل برامج التنمية في بلدان المنطقة ، وتخريب الأنساق الثقافية المتوارثة وتشويهها ، وإجهاض كل مشاريع التطور الفكري أو التعليمي حفاظا علي مستوي متدني من الوعي الذي يسهل معه قيادة جماهير مغيبة في حاجة فقط للطعام ، وفي غير حاجة للتحرر أو للكرامة.
أموال البترول العربي مهولة وخيالية ، وكان من الممكن استغلالها لتطوير وعي الانسان العربي والارتقاء بقيمته العلمية وبقيمه الانسانية بتكلفة أقل كثيرا من تكلفة تحويله إلي كائن جاهل يشرب بول البعير لعلاج نفسه من الامساك ويتشوق لمناكحة طفلة صغيرة أو مفاخدة رضيعة.
في منطقتنا العربية دولة تنتج ما يزيد عن الخمسة ملايين برميل بترول يوميا، وعليك أمام القيمة المالية لهذا الرقم مضروبا في متوسط أربعين دولارا للبرميل الواحد أن تسأل عن التركيبة النفسية والعلمية والوجدانية والحضارية والانسانية للانسان الذي يعيش علي أرض بلد له مثل هذا الدخل يوميا مع عدم النظر إلي أوضاع المرأة هناك ، أو إلي انعدام أي نوع من الحريات السياسية ، أو إلي نوعية العقوبات التي يتم إنزالها هناك بالمذنبين كالجلد أو قطع الرقبة.
كيف تكون روح الانسان الذي يعيش في ظل أوضاع كهذه ؟؟!! ، الخراب الروحي هو أقل النتائج المترتبة علي استخدام أموال الشعب في التنكيل بالمواطن وحرمانه من فرص نموه الذاتي، وتهيئة إمكاناته فقط لإشباع حاجاته الضرورية كالغذاء والجنس.
المال في أماكن أخري من العالم يفعل كل ما يمكّن الفرد من تنمية ملكاته وتجاوز كل ما كان في نظره مستحيلا ، وتنمية روحه والارتقاء بمستواه العلمي والمعرفي ومنحه الفرصة لاثبات ذاته في كل مجال يمكنه أن يبرع فيه، لكن المال العربي يستخدم في تعميق جهالة الانسان العربي بذاته وبالأدوار التي عليه القيام بها من حيث كونه إنسانا.

شارك