"لا تنسونا" كتاب جديد لبطريرك العراق يرصد محنة المسيحيين مع داعش

الإثنين 20/يناير/2020 - 01:17 م
طباعة روبير الفارس
 
صدر كتاب جديد لغبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو.بطريرك الكلدان بالعراق  الكتاب هو ثمرة سلسلة لقاءات صحفية أجرَتها الاعلامية الفرنسية لورنس ديجويوه عام 2015، مع غبطته في روما على هامش السينودس الذى عقد بالفاتيكان تحت عنوان "من أجل العائلة "وعلى اثر احتلال تنظيم داعش الموصل وبلدات سهل نينوى وطرده المسيحيين منها. يسرد البطريرك في هذه اللقاءات واقع المسيحيين العراقيين، تاريخهم، معاناتهم، اسباب هجرتهم، اهمية الحفاظ على تراثهم الانساني والكنسي، والحوار مع الاسلام، ويطرح بعض الحلول. كما تطرَّق الى سيرته الذاتية في الفصل الثالث. علماً بان هذا الكتاب تُرجم الى الايطالية والالمانية أيضاً. وجاء الكتاب في خمسة فصول الخمسة مع التقديم للكاردينال فيليب برباران.

الفصل الأول: إزاء محنة “داعش

الفصل الثاني: العراق، 2000 عام من المسيحية

الفصل الثالث: البطريرك لويس ساكو، سيرة حياة في العراق

الفصل الرابع: الحوار مع الإسلام

الفصل الخامس: ما هو مستقبل العراق وما هو مستقبل المسيحيين فيه؟

وجاء في تـقــــديــــــــــــــــــــم الكتاب 

“يا أخي انت دائماً غير موجود على الخط!”، عندما اسمع هذه الكلمات ملفوظة بصوت حادّ بين الرسائل التي تردني على هاتفي النقال، أعرف أنه البطريرك ساكو، وأن عليّ أن أسارع في الاتصال بلا تأخّير بأخي العزيز لويس!

صداقة بسيطة انعقدت بيننا خلال اقامته في ليون ومعه المطران يوسف توما، الذي خلفه كمطران على كركوك، وكانت في شهر آذار 2014، جاءا للمشاركة في مؤتمر عالمي عقدته جامعتنا الكاثوليكية في ليون حول مسيحيي الشرق وعلاقتهم بالإسلام

إن أحداث حزيران وتموز الماضيين التي يسردها منذ الصفحات الاولى من هذا الكتاب، قرّبت بيننا كثيراً، فكنت أتصل به في بغداد كلَّ أسبوع لأستطلع عن الأحداث، واؤكد للبطريرك ساكو عن صلاتِنا، ولكي أجد السبيل لكيفية مساعدة إخوتنا وأخواتنا مسيحيي العراق.

نحو بداية تموز جاءتني فكرة الذهاب إلى هناك، فتفاجأ البطريرك وتعجب قائلاً: “أن تأتي أنت! لا يمكنك أن تتصور الفرح الذي سيكون لدينا إذا ما تحقق هذا المشروع!”، بعد الحصول على موافقة أكيدة من روما، ومن المطران بونتييه Pontier، رئيس مجلس اساقفة فرنسا الذي قال لي: ” إذهب، وخذ معك بعض الإخوة الأساقفة، فهذا وفد يمثل مجلِـسَنا، ونحن كلُّنا معك في هذه الرحلة”.

المطران ميشيل ديبوست (Michel Dubost)، رئيس مجلس العلاقات بين الاديان، والمونسنيور باسكال كولنيش (Pascal Gollnisch) المدير العام لمنظمة “عمل الشرق” (Oeuvre d’Orient) أبديا حالًا موافقتهما، وبعد مباحثات وتنظيم للسفرة، بلا صعوبة تذكر، نصحنا البطريرك أن نحطّ في أربيل، حيث رافقنا لأربعة أيام في لقائنا بمسيحيين طردوا من الموصل: يوم في اربيل ويوم في كرمليس وقره قوش ويوم في القوش واليوم الأخير في كركوك، ولكم تكرر معنا  اللقاء نفسه في قاعة صف تضمّ 20 شخصاً، أو في صالة للخورنة مع 100 من المهجرين، أو في كنيسة تجمع 300-500 شخصاً أو في كاتدرائية امتلأت بـ 1000 أخ وأخت من المؤمنين.

كان هناك أولاً وقت للصلاة والترتيل وشرح الإنجيل، وكنت أشرح أسباب مجيئنا وأعرض صوراً لمظاهرات أقيمت أمام كاتدرائية السيدة العذراء (نورتردام) في باريس أو أمام الكاتدرائية الاولى مار يوحنا في ليون، وذلك قبل أيام من زيارتي. كنت أشرح لهم عن القداس الذي أقمته في كنيسة فورفيير (Fourvière) في ليون قبل قدومنا بقليل، والصلاة الحارة التي رفعها مسيحيو فرنسا…، بعدئذ تأتي فترة شهادات يدليها المهجرون. ويمكنني القول بأننا سمعنا 100 مرة الحكاية نفسها، لكنها دائماً مختلفة؛ مع ذلك، كانت الشهادات تدور حول الأيام العصيبة التي عاشوها في 17 و18 تموز، حيث أعلن فجأة أنه لن يبق مسيحي واحد في الموصل. عندئذ قررت أن أعمل توأمة بين أبرشيتـَي ليون والموصل، وعاهدتُ نفسي أمام الجميع أن أتلو صلاة “الأبانا”، بالكلدانية، لغتهم الليتورجية، سأتلوها كل يوم، حتى يعود هؤلاء المسيحيون إلى ديارهم!

لم يكن الوضع جيدا، لكن كما شرح البطريرك في هذا الكتاب، تفاقم الأمر كثيراً بعد أيام من انتهاء سفرتنا، عندما قامت “داعش” بالاستيلاء على كل من قره قوش ومدن أخرى عديدة، في ليلة 6 و7 من شهر آب اغسطس  وكانت مأساة جديدة اخرى!

كلُّ الشهادات التي سمعناها خلال تلك الأيام التي لا تنسى، أثارت فينا تساؤلات عدّة. كيف يمكننا أن نساعد ونعرّف العالم بهذه الحالة ونستنهض الرأي العام ونعقد علاقاتٍ مستمرة بين العائلات العراقية والفرنسية…؟

ولكن، قبل كل شيء، أريد أن أبيّن انبهاري بإخوتي وأخواتي هؤلاء في الإيمان لأنهم:

– ولا مرة، لم ينكر أحد من مسيحيّي الموصل إيمانه أمام القرار القاطع النهائي الذي صدر يوم 17 تموز، في حين كان–إذا سمح لي أن أقول-ربّ عائلتنا المسيحية الأول “القديس بطرس” قد أنكر معلمه عشيّة خميس الفصح. لم أسمع قط أحدًا من هؤلاء يدلي، ولو ببنت شفة بكلام يعبّر عن الرغبة في الانتقام.

– كنت شاهداً مرتين لدعوة برلمانيين مسلمين، امرأة شيعية ورجل سني، عبّرا فيهما عن الدَين الذي يشعران به نحو المسيحيين، وكانا يرجوانهم البقاء قائلين: “نحن بحاجة إليكم، لأن وطننا لا يمكنه أن يستعيد بناءه من دون المسيحيين”.

إلى جانب ذلك، اكتشفتُ جماعة الإيزيديين، التي يعدّونها كافرة، وقد اضطُهدوا أكثر من المسيحيين، ولكونهم لم يجدوا الدعم من أحد التفت الإيزيديون نحو البابا طالبين منه أن يدافع عنهم.

لكي أعود إلى الشخص موضوع هذا الكتاب، أقول أدهشَتني فيه جدًا صورة الراعي الصالح، لأنه كان دائمًا بالقرب مني، وفي جميع اللقاءات كان يشرح للناس محاولاته لدى حكومتي بغداد وأربيل في كردستان، من أجل المهجرين، كذلك مساعيه في بروكسل لدى المؤسسات الاوربية، وفي كنائس أوربا وأمريكا الشمالية وغيرها، إنه الراعي الذي تطوّع كليا ليدافع عن شعبه! لذا وخلال بضعة أيام فقط أصبح البطريرك ساكو أخاً عزيزاً عليّ.

خلال اللقاءات كان غبطته يصغي، ويغور أكثر فأكثر في مأساة شعبه، معاناة رعيته، وأكثر من مرة رأيت الدمعة تنزل على خده، فآلامهم كانت آلامه. وفي أحد الأيام قال: “إنه لمكتوب حقاً في تاريخ شعبنا أن نكون مضطَهَدين، وملاحَقين، فعائلتي إبان طفولتي وشبابي هجرت ثلاث مرات”، ثم قام رجل من نفس العمر وأعلن: “أما نحن فهذه المرة الخامسة التي فيها تتشرد عائلتنا”!

أن عاطفية البطريرك ساكو، كانت تؤدّي أحيانا إلى ردود فعل قوية فيقول لهم: “كلا، توقفوا عن التشكي ولا تستسلموا لليأس، لأنه خطيئة! أنظروا، لقد نجوتم مع أولادكم ومرضاكم والمسنين من بينكم، فلم تفقدوا أحدًا، في حين لدى الإيزيديين وحتى لدى المسلمين قتلى أكثر! صحيح فقدتم كل شيء، وسرق منكم كل شيء، ولكن، تشبثوا بالثقة في الله، فالرجاء المسيحي ليس الضمانة بأن كل شيء سيسير على ما يرام، بل قد تسوء الامور أحيانا و(فعلاً ساءت الحالة بعد أسبوع من ذلك) لكن الرجاء يجب أن يبنى على إيمانكم أنتم، وستبقون دائما في يد الله، وهو لن يتخلّى عنكم أبداً”.

مرات عديدة كلّمهم البطريرك عن الحالة التي تعرّض إليها يونان النبي، لأن الموصل هي عينها نينوى في الكتاب المقدس، فقال: “أنظروا إلى يونان الذي ابتلعه حوت كبير، ثم أطلقه فخرج من بطن الحوت، أنتم أيضاً سوف تخرجون من هذا الوحش. تشبّثوا إذن بالرجاء”.

ثم كان ساكو يجلس ليأخذ وقتًا ليصغي إلى شابة كانت قد تزوجت في الموصل بالضبط يوم 17 تموز، أو إلى أشخاص مسنين اغرورقت أعينهم بالدموع، أو إلى رب عائلة صارع كي ينقذ ابنه وعمره 12 عامًا، أو إلى تلك الحلاقة الذكية التي استطاعت أن تعبر الحواجز خارج مدينة الموصل بالسيارة مع اولادها، حين كان الحرس يتناولون طعام السحور قبل شروق الشمس، إذ كان الوقت رمضان! كل واحد منهم يحكي مغامرته، ويعبّر عن همومه وغضبه، وبعضهم كان قد نبّهه جيران مسلمون وساعدوه، وآخر بالعكس خانه الجيران. هكذا هم البشر يبقون مجرّد بشر، وثمة استاذ جامعي مسلم سنّي (الدكتور محمد العسلي) فهو اعترض على طرد المسيحيين من بيتهم، فقُتل عندما قال: “أتركوهم، هذا بيتهم، فالمسيحيون وصلوا إلى الموصل قبلكم بزمان طويل يا أيها المسلمون!”. كل هذه القصص ستبقى إلى الأبد محفورة في ذاكرتي.

في نهاية الزيارة، كان البطريرك ساكو يأخذني كي نبارك طفلاً مريضاً، أو نلتقي عائلة تعاني من حالة مؤلمة. أما حرارة المناخ فكانت شديدة جدا تتجاوز 45 درجة بل أقول 48، لكنها قابلة للتحمّل لأن المناخ جاف. لحسن الحظ كان الأطفال من حولنا فرحين، لا يبالون. فالأطفال دائماً يلعبون! أما الاهل، فكانوا قد بدأوا يفكرون بالشتاء القاسي، في هذه المنطقة القارّية، حيث الشتاء يأتي سريعاً، ماذا سيكون مصير البيت والمدرسة وأمور العناية بالصحة؟ … كنا سوية معهم نفكر في الحلول الممكنة.

وكان تنظيماً رائعاً ذاك الذي أقيم فور عودتنا إلى ليون، بالرغم من كون العطلة الصيفية لم تنته بعد. فشمّرت منظمات كثيرة – وطنية ومحلية – عن ساعد الجِد، ساعدتها جماهير كثيرة من المتطوعين، في إرسال الأطعمة، والملابس والأدوية، أو أسهمت في إعداد المساكن… وفي فرنسا، قامت منظمات المجتمع المدني ورجال السياسة المنتخَبين، وتنظيمات المقاطعات ومؤسسات الحكومة الفرنسية، كلهم كانوا قريبين ومتضامنين مع مبادرات الكنيسة، لاستقبال العراقيين من الذين طلبوا اللجوء، وإرسال الدعم الفاعل لكل هؤلاء الذين يفضلون البقاء في بلادهم: فأقيمت حفلات خيرية، ومآدب تعاونية كبيرة وصلوات ومظاهرات وقداديس… كل هذه الانشطة الطوعية لم تتوقف بل كانت في تزايد مطّرد.

 إن شباب مدينة ليون البالغين الذين أخذوا على عاتقهم مسألة التوأمة، عنّت لهم فجأة فكرة، تكاد تكون جنونية: أن يصدروا إلى مدينة أربيل فرح عيد كبير الذي يقام كل سنة في ليون يوم 8 كانون الأول (وهو عيد ولادة أمنا العذراء) وإذا بطائرة تحلق بعنفوان فيها 80 شخصًا، ليقضوا في اربيل أيام السادس والسابع من كانون الأول، قضوها في زيارة تجمعات المهجرين، وقدموا لعائلاتهم الطعام، وشاركوا في القداديس، و”الزيّاحات”، وصلاة الوردية، والسهرات المريمية، لقد كان حقاً لقاءً رائعًا وفّق بين الهموم المادية والظروف المعاشية وبين إعطاء شهادة عن الصداقة والاخوّة، ففي قلب التوأمة الروحية، يوجد الاعتماد على الصلاة والرحمة والتعاطف.

كنا قد انطلقنا ومعنا عشرة آلاف شمعة وزّعت خلال تطواف يوم السبت مساءً، في شوارع اربيل، صلينا “السلام عليك يا مريم” تلك الصلاة التي تُصلّى في مدينة لورد، بالفرنسية والعربية، كنا جوقاً واحداً وكان مسلمون عديدون معنا، فهم ايضاً يحبّون العذراء مريم، يسيرون بيننا. وفي الأخير ظهر على شاشة عملاقة وجه البابا فرنسيس، الذي بدأ كلامه بقوله “شكراً”، كان يتحدث بالإيطالية، وكانت الترجمة العربية مكتوبة في هامش الصورة، لقد كان البابا ينظر إلينا، إلى كل واحد منّا. كأني به يقول: شكرا لكم أيها الإخوة والأخوات العراقيون، شكرا لشهادة إيمانكم وشجاعتكم وأمانتكم للمسيح. ففي هذه المحنة الكبيرة، أنتم مثل تلك القصبة التي تحدّثت عنها القديسة ترازيا، تنحني أمام العاصفة لكنها تبقى عميقة في تجذّرها، تأكدوا أن البابا والعالم كله يصلي من أجلكم، شكراً لكم.

نعم، كلنا قلنا: شكراً، لأن إيمان إخوتنا في الشرق يوقظ إيمان المسيحيين في الغرب، لأننا، نحن أيضاً مثلهم، لدى البدايات الأولى حين دخلت المسيحية في بلاد الغال، كان رجال ونساء قد أنكروا إيمانهم تحت وطأة الاضطهاد الروماني، لكنهم عادوا إلى الإيمان بالمسيح، عندما رأوا استشهاد القديسين مثل: القديسة بلاندين Blandine والقديس بوتان Pothin والقديس بونتيك Pontique وأربعين آخرين مثلهم.

أيها الاخ العزيز لويس، إننا نسمع نداءكم عندما تقولون لنا “لا تنسونا”، في قلب هذه المأساة، ندرك أن الرجاء حاضر في قلبك، نشعر به عبر كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، فأنت بنفسك أيضاً تقرّع وتوبخ مؤمنيك، لئلا يقعوا في متاهة اليأس، وكما قلتَ: “نحن أيضا في نفق، وهو نفق طويل، ضيّق ومظلم، لكن في النهاية يوجد النور، توجد الشمس، في النهاية ستأتي القيامة!”. 

يا رب، أنت بنعمتك مقرونة بقوّة صلاتنا، لن يكون أخونا لويس، كما قال هو مرة: “آخر بطريرك يعيش في العراق”، أليس كذلك؟ إجعل أن يحدُث العكس: “أي أن يكون لويس بطريرك نهضة حقيقية”، وهذا هو رجاؤنا! 

الكردينال فيليب بارباران

شارك