كتب تقرؤنا يكشف ضعف الخيال السياسي للإسلاميين

الأربعاء 29/أبريل/2020 - 09:15 ص
طباعة روبير الفارس
 
للكاتب محمد عبد العاطي صدر مؤخرا كتاب بعنوان (كتب تقرؤنا  ) وهو كتاب يقوم علي تقديم قراءات نقدية لكتب قرأها المؤلف وتأثر بها وفي إطار هذا تعرض الكاتب لكتاب الخيال السياسي للاسلاميين للدكتورة هبة عزت والذي أكد علي تشتت مضمونه حيث قال عنه 
هذا الكتاب جذبني عنوانه وأرهقني مضمونه. الكتاب بعنوان "الخيال السياسي للإسلاميين.. ما قبل الدولة وما بعدها" لمؤلفته، أستاذة العلوم السياسية، هبة رءوف عزت. تنطلق المؤلفة من فرضية أن الإسلاميين غير مستوعبين مفهوم الدولة. 

وللتدليل على هذه الفرضية استعرضت الطريقة التي يفكر بها الإسلاميون في الدولة والكيفية التي يتخيلونها، وقامت بتتبع كتابات مجموعة معاصرة منهم منشورة في مجلة المنار الجديد، أمثال: يوسف القرضاوي وسليم العوا وطارق البشري ومحمد عمارة وأبو العلا ماضي وعصام العريان، ولم تكتف بهؤلاء بل رجعت قليلًا للخلف من أجل توسيع دائرة البحث، فضمَّت إليهم كتابات: حسن البنا وسيد قطب وعبد القادر عودة وأبو الأعلى المودودي.. وخلصت إلى أنهم جميعًا لم يفهموا الدولة التي يتحدثون عنها فهمًا دقيقًا كما يفهمها علماء السياسة والمتخصصون. وتقول: إنهم يتحدثون عن الدولة القومية ويحسبون أنهم يتحدثون عن الأمة، ورغم أن مفهوم الأمة ملتبس -تضيف الكاتبة- فإنهم أضافوا إلى هذا الالتباس ذلك الخلط المفاهيمي المعيب، ومن هنا جاءت كتاباتهم مضطربة وناقصة ومختزلة وتفتقد إلى العمق والخيال.

وتستثني من هذا العيب كتابات بعض الإسلاميين الذين جمعوا بين التخصص والخلفية الحركية، والتي ظهرت في السنوات القليلة الماضية لكنها لا تزال في بداياتها مثل إنتاج: نادية مصطفى ومنى أبو الفضل وحامد عبد الماجد وإبراهيم البيومي غانم وهشام جعفر وعلاء النادي وإنتاجها هي شخصيًّا.

ثم تؤكد المؤلفة في خاتمة الكتاب الذي صدر في عام 2015 على ضرورة تطوير الإسلاميين نظرتهم لمفهوم الدولة، وتنصحهم بأهمية التمييز بين الليبرالية والرأسمالية، وبين العلمانية واللاأخلاقية، وبضرورة إعادة التفكير في مفهوم الأمة وتطويره ليتماشى ومتغيرات العصر. وتشير إلى أن ذلك التطوير يحتاج منهم إلى التخصص والتعمق والتحرر من قيد التنظيم وبيروقراطيته وجموده وانغلاقه.

هذا تقريبًا هو جوهر الكتاب وفكرته الأساسية. وهو كتاب مهم في بابه، جاذب في عنوانه، جريء في طرحه، غير أنه لا يخلو من أوجه ضعف، لعل من أبرزها أسلوبه المعقد، وكثرة استخدامه المفاهيم والمصطلحات التي يصعب فهمها دون وضعها في سياق، وهو ما لم تفعله الكاتبة، مما جعل من استمرار عملية القراءة إجهادًا للذهن.
كذلك، وبسببٍ من طبيعة الكتاب نفسه، وكونه مقالات مُجمَّعة ودراسات سابقة منشورة في أوقات مختلفة، فإن القارئ يشعر بافتقاد الوحدة الموضوعية في الكتاب، وربما هذا ما جعل مستواه متذبذبًا من جزء لجزء ومن فقرة لأخرى. يُذكرُ أن الكتاب غير مقسَّمٍ إلى أبواب أو فصول. والأهم أنه بصيغته هذه قد أخفق في إعطاء أفكاره ما يستحقها من استيفاء العرض واستكمال التحليل فجاءت صفحاته الـ144 أشبه بنقر ديكة وليس بغرس فسائل.


وعلى هذا، فيبدو أن الكتاب، وبسببٍ من تشتته وإرهاقه وصعوبة أسلوبه، يحتاج إلى تفكيك وإعادة تركيب حتى لا تضيع فكرته المهمة التي أحسب أنها لو استوفت حقها لحلت كثيرًا من الإشكالات الفكرية التي لا يحتاجها الإسلاميون فحسب بل وبقية التيارات الفكرية أيضًا

افكار العالم الإسلامي
ويقدم الكاتب محمد عبد العاطي قراءة مهمة في كتاب 
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي - تأليف  مالك بن نبي 
فيقول 
هذا كتاب دسم.. أفكاره عميقة، متدفقة، غزيرة، يلهث القارئ وراءها، تحتاج منه إلى رويَّة وأناة لاستيعابها وتمثلها وهضمها، رغم أن أسلوب الكاتب سلس ومفرداته ومصطلحاته واضحة لا تعقيد فيها، ورغم انتقاله المنطقي من فكرة إلى فكرة ومن فصل إلى فصل وفق منهج واضح كأنك تشاهده وهو يبني عمارة بدءًا من الحفر ووضع الأساس مرورًا بالأعمدة والأسقف وانتهاء بالجدران. ومع هذه السهولة فالأمر يحتاج إلى قراءة أوليَّة للإمساك بالفكرة العامة للكتاب وتتبع خيوطها الأساسية، ثم بعد ذلك يحتاج إلى قراءة ثانية لتعميق الفهم والقدرة على مناقشة الكاتب في أفكاره وقبول أو رفض ما يطرحه من رؤى وما ينتهي إليه من خلاصات.
يُسلِّط الكتاب الضوء على الصعوبات التي يواجهها المجتمع الإسلامي في مواجهة مشاكله الحاضرة، ويخصصها الكاتب في ميدانيِّ الأخلاق والأفكار الفعَّالة. مستعرضًا هذه المشكلات التي تنجم عن هذا النوع من الأفكار "المعطوبة"، ومتتبعًا حالها، مختبرًا إياها عبر التاريخ الإسلامي من ناحيتي الخيرية الذاتية (أي ما إن كانت خيرة في ذاتها)، ومن ناحية فاعليتها وقدرتها على تغيير الواقع إلى الأحسن، ذلك لأنه ليس كل فكرة خيِّرة صالحة في ذاتها لأن تغير الواقع إلى الأفضل ولكن لابد أن تتوفر لها الفعالية والخصائص العملية لتتحول إلى واقع معيش.
ويربط مالك بن نبي هذه الأفكار بضلعين أساسيين، هما: الأشياء والأشخاص. وكما يفعل الطبيب حينما يكشف على المريض ليتعرف على الداء هكذا يحاول المؤلف في كتابه فنجده "يكشف" على الأفكار منقبًّا عن عللها وباحثًا عن أسباب هذه العلل وراصدًا تداعياتها السلبية على "الصحة الحضارية" للعالم الإسلامي.
ومن خلال هذا المثلث بأضلاعه الثلاثة: الأفكار، والأشياء، والأشخاص، يراجع ابن نبي نكباتنا التاريخية في محطات مختلفة؛ قديمة وحديثة ومعاصرة، ويجد ضالته "التفسيرية" في تلكم الأفكار المعطوبة التي كانت وراء هذه الإخفاقات وتسببت في تلك النكبات.
وربما في هذا المثال العارض والسريع الذي استشهد به ما يدل على فكرته، فيقول: إن المشكلة تنجم أحيانًا إذا كان تقديرنا للأشياء مبالغًا فيه، فمثلًا هنالك إحدى الدول العربية الغنية قررت شراء أسطول كبير من سيارات الإسعاف وهي لا تحتاج إلا إلى ربع هذا العدد فقط، فكانت النتيجة (نتيجة الفكرة الخاطئة، فكرة الشراء، دافعية الامتلاك، المبالغة في تقدير الأشياء وعدم حسابها بدقة) أن تَلِفَت أعداد كبيرة من هذه السيارات وهي واقفة في العراء دون استعمال لسنوات طويلة.
وَقِسْ على ذلك -الاستطراد من عندي- عمليات التنمية الأخرى التي تتم وتتخذ أشكالًا استهلاكية من بناء أبراج و"مولات" ومجمعات استهلاكية دون حاجة مجتمعية حقيقية إليها ودون تفكر في ترتيب الأولويات.
وينتقل المؤلف من تبيان العلاقة بين الأفكار والأشياء صوابًا وخطأً إلى إيضاح ما لها وما عليها حينما ترتبط بالأشخاص، وفي جانبها السلبي يشير إلى أن الفكرة حينما تأتي للعالم الإسلامي من عدو -رغم أنها صحيحة- لا تستقبلها العقول الاستقبال اللائق بصحتها، وإنما تُرفض وتُهمل وتُشيطن ويُشيطن صاحبها، أما إذا جاءته من صديق أو من أناس لهم حيثية واعتبار كالمشايخ (علماء الدين) على سبيل المثال فإنه يُحتفى بها ويُسعى إلى تطبيقها رغم أنها لم تمر بمحطة التقييم والنقد الذي يقيسها بمقاييس العلم والموضوعية فيقدِّر وزنها الحقيقي ويتعرف على ما فيها من نفع وضرر.
وهكذا يسير الكتاب مُدلِّلًا على فرضيته الأساسية، تلك الفرضية التي تذهب إلى أننا نتاج أفكارنا، وأن تصرفاتنا الفردية وصيرورتنا المجتمعية وتطورنا الحضاري مرتبط بنمط الأفكار التي نتبناها والتي تسكن عقولنا وتسود بيننا، ومقدار ما تتمتع به من صحة ووهج وإشعاع ونفع وإفادة.
ويقارن الكاتب بين أنماط الأفكار في الحضارات المختلفة، فيصف النمط الفكري السائد في الحضارة الإسلامية بأن منظومته متجهة في نظرها إلى السماء، وأن الحضارة الإسلامية التي تأسست على هذه المنظومة الفكرية كانت تهدف بمنتوجها العلمي والفكري والأدبي إلى معرفة الخالق وإعمار الحياة وفق هداه ضاربًا بذلك مثلًا بقصة حي بن يقظان الذي ما إن شبَّ حتى بدأ يبحث عن الخالق ويتساءل عن سبب الوجود وسر الحياة ويكتشف حينما ماتت الظبية التي ربَّته أن سر الحياة ليس في هذا الجسد المعرض للتلف وإنما في ذلك الشيء الذي خرج منه فتوقف عن الحياة.
بينما النمط الفكري السائد في الحضارة الغربية، وفق مالك بن نبي، كان متجهًا نحو النظر الدائم إلى الأرض، واستكشاف قوانينها للاستفادة منها فيما يُحسِّن العيش اليومي، ويضرب لذلك مثلًا مقابلًا لمثل حي بن يقظان بقصة روبنسون كروزو ويومياته في تلك الجزيرة النائية التي عاش فيها أربعة أعوام حينما تحطَّمت سفينته فكان شغله الشاغل من البداية حتى النهاية هو تأمين قُوتِه الذي يأكله، ومسكنه الذي يقيه غائلة الحر والبرد والمطر ويُؤمِّنه ضد هجمات السباع، ولم يذهب بفكره وروحه أبعد من ذلك كما ذهب حي بن يقظان.
ولأن الكتاب موجه لتحليل الأفكار في العقل المسلم (العالم الإسلامي) فقد التزم الكاتب بذلك في فصول الكتاب بأكملها ولم يذهب في أمثلته بعيدًا إلا بغرض المقارنة ثم سرعان ما يعود.
ويطرح المؤلف سؤالًا عن الفكرة الجوهرية والأساسية المكلف بحملها المسلم، فيقول: إنها حب الخير وكراهية الشر. ومن نموذج الطفل (يبدأ في التعرف على الأشياء ثم الأشخاص ثم الأفكار) إلى نموذج الفرد ومنه إلى نموذج المجتمع، فيقول: إن المجتمع قبل أن يدخل في طور الحضارة تكون اهتماماته منصبة على تلبية دوافعه الغريزية، ثم حينما يجد فكرته المتوهجة المشعة يستهل بها دخوله التاريخ ويصنع بها حضارته الخاصة.
ويشترط المؤلف لذلك أن تكون الطاقة الحيوية الدافعة والمُولِّدة والمحرِّكة لهذه الأفكار معتدلةً ومتزنةً، فلا هي بالجارفة فتدمر الفرد والمجتمع، ولا هي بالخافتة الواهنة لا تنير طريقًا ولا تقيم للحضارة المادية والمعنوية أودًا.
وينظر مالك بن نبي إلى العالم الإسلامي الراهن على أنه لا يزال يعيش حالة من الجمود الحضاري بسبب ما مَرَّ به خلال ألف عام من التراجع والخمول، وأنه حتى اللحظة الحضارية الراهنة لا يزال فاقدًا للتوازن باحثًا عن البوصلة، وحينما أراد دخول القرن العشرين؛ ذلك القرن الذي وصلت القوة المادية فيه إلى أوجها، دخلها وهو خائر القوة المادية، واهن الأخلاق والقيم، فأصابه ما أصابه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن.
وعن تَلمُّس تداعيات مشكلة الأفكار على واقع العالم الإسلامي الآن يخلص إلى أن العطب الذي أصاب أفكار المسلمين جعلهم يتعاملون مع حضارة العصر التي توسم بأنها حضارة العلم والتكنولوجيا وهم لا يمتلكون أدواتها ولا تسعفهم نماذجهم الفكرية السلفية التي توارثوها لتحقيق ذلك.
ويحذِّر مالك بن نبي من لجوء العالم الإسلامي، وهو يبحث عن أفكاره النهضوية التي تنتشله من التخلف الحضاري الذي يعيشه، يحذر من لجوئه إلى الأفكار التي تركها الغرب نفسه واعتبرها ميتة ومميتة بعد أن اتضح إفلاسها، كالتجربة الماركسية على سبيل المثال.
كما يحذر من تكرار التجارب التاريخية التي دفعت فيها الشعوب الناهضة ضريبةً غاليةً من الحروب والدماء، داعيًا إلى الاتعاظ من هذه النتائج تجنبًا للإخفاق، ويقول بتعبيره المُعبِّر: "فنحن لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خطى الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروبًا جديدة تستجيب لسائر المشكلات سواء على الصعيد الأخلاقي أو على صعيد الأفكار الفعَّالة؛ المطلوبة لمجابهة مشكلات التطور في مجتمع يسعى نحو إعادة بناء نفسه".
"مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، كتاب سابق لعصره (ثمة فصل عن الثورة والثورة المضادة مكتوب وكأن المؤلف يعيش معنا اليوم)، وهو لا يحتاج إلى قراءة فقط وإنما إلى مدارسة؛ ذلك لأن الكثير من ثمراته لا تزال ناضجة حلوة المذاق.

شارك