الجماعات الإسلاموية والجيوش النظامية

السبت 30/مايو/2020 - 12:30 ص
طباعة
 
الجماعات الإسلاموية والجيوش النظامية من محاولات الاختراق إلى المواجهة

لا تخلو المجتمعات البشرية في عصورها المتعاقبة وأشكالها المختلفة من تيارات متدافعة، من أشرسها تيار الهدْم، الذي اختار هدم اللحظة الحاضرة بكل ما تحمل من منجزٍ ماديٍ أو فكري أو بنية مجتمعية أو مؤسسية دولية بُغية تطهير الحاضر بإعادته إلى الماضي وفق ما يظنون أنّه الفهم الصحيح للإسلام الذي يتمايزون به عن الناس. فتنطلق جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، وإن تعددت أسماؤها، من اعتقاد راسخ في أصولية الخلافة ووجوب استعادتها، ينطلقون في كراهيتهم للآخر من اعتقادهم في نظرية المؤامرة الكونية على الإسلام، يرون في كلّ صراع سياسي صراعا دينيا بين الحق المطلق تمثّله الجماعات في مواجهة الباطل الذي يقوم بدوره خصومهم السياسيون، فيقول عبدالله عزّام أحد المرجعيات الفكرية المشتركة بين جماعة الإخوان المسلمين وأجيال من الجماعات الإسلاموية المسلحة والأب الروحي لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة: "إننا نخوض حربا مفتوحة مع العالم حتى نستعيد كلّ شبر حكمه المسلمون.. لذا كل من لا يجاهد الآن - فوق الأرض - فهو فاسق، وإن كان من حمائم المسجد، وإن كان من العبّاد والزهاد". الفكرة نفسها في أدبيات المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين في قوله: "الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزر بحر الروم، كلّها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام. ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل". وهذا يُفسّر أحد أسباب الموقف العدائي الذي تتخذه الجماعات من الجيوش النّظامية، ويجعل الصدام بينهما واقع لا محالة، فالجيوش تحمى فكرة الدولة القطرية بحدودها الجغرافية، نقيض الدولة التاريخية التوسعية في فكر الجماعات. فجماعات التغيير بالسياسة وجماعات التغيير بالقوة تجمعهما غاية واحدة، وكثيرا ما تقاطع مسارهما التاريخي، وليس من الصواب ما يُروّجه البعض من كونهما مسارين منفصلين مختلفين تماما، تلك الفكرة التي باتت شائعة، وكأنّها حقيقة ثابتة، متجاهلين الشواهد التاريخية التي تُؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين عبر تاريخها إذا استغضبت اصطدمت، فمتى ارتفعت نبرة خطابها الحماسي الانفعالي زادت درجة حرارة التنظيم واتّجه عناصره إلى العنف..

ففي سنة ١٩٥٠ اتّجهت جماعة الإخوان المسلمين في لحظة يأس سياسي عقب خسارتها في انتخابات برلمانية نزيهة إلى التّحالف مع تنظيم الضباط الأحرار لإسقاط نظام الحكم والإطاحة بالحياة السياسية متمثلة في برلمان وحكومة الوفد المنتخبة، إلا أنّه سرعان ما دبّ الشقاق والخلاف بين الجماعة والجيش، وبلغ الصدام ذورته بمحاولة اغتيال فاشلة من الجماعة لرئيس الحكومة جمال عبدالناصر فيما عُرف بحادثة المنشية عام ١٩٥٤.
ولم تمضِ عشرة أعوام حتى كان الصدام الثاني عام ١٩٦٥بمحاولة بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وهي في السجن، إعادة عمل النظام الخاص (الجناح المسلح)، إلا أنّ باءت بالفشل، وقُدّم للمحاكمة ١٩٥عضوا في القضية رقم ١٢ لسنة ١٩٦٥ حُوكم فيها بالأشغال الشاقة المؤبدة والسجن في حق١٩٢، وأحكاما بالإعدام في حق ثلاثةٍ منهم الأستاذ سيد قطب أحد الآباء المؤسسين لفكر جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الجهاد الإسلامي.
 بتلك المحاولة الفاشلة لإحياء النظام الخاص يُؤرخ أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة لبداية العمل المسلّح لإسقاط الدولة المصرية، قائلا: "الأستاذ سيد قطب وإخوانه أول طليعة للحركة الجهادية التي قررت أن توجّه ضرباتها ضد الحكومة القائمة باعتبارها نظاماً معادياً للإسلام خارجاً عن منهج الله، وإن بدأ تخطيطهم داخل السجن بسيطاً، فلم يكن لديهم خطة كاملة لتغيير النظام، إلا أن كتابات الأستاذ سيد قطب نقطة تحوّل في مسار الحركة الإسلامية، بتوصيفها المعركة ضد النظام الحاكم باسمها الحقيقي: معركة الإسلام لإخلاص التوحيد لله والتسليم الكامل لحاكميته وسيادة منهجه، فمحاولة الأستاذ سيد قطب وإخوانه مثل كلّ تحوّل يبدأ ضعيفاً ثم لا يلبث أن يتقوى شيئاً فشيئاً، وتتضح معالمه أكثر فأكثر مع مرور الوقت".
بتغييب الجماعة المركزية الإخوان المسلمين واعتقال أعضاءها انتهى فصل من فصول المواجهة مع الجيش؛ ليبدأ فصل جديد، ففي حالة من السيولة التنظيمية بدأت تتكون في النصف الثاني من الستينات جماعات صغيرة في تنظيم عنقودي اعترفت للإخوان المسلمين بالريادة إلا أنّها أخذت عليها عدم الرشد الحركي الذي تسبب في ضياع فرصة تحقيق الحاكمية سنة ١٩٥٤، ورأوا أن ترشيد مسار الإخوان المسلمين يبدأ من اختراق الجيش وتكوين تنظيم من الضباط الذين يدينون بالولاء للجماعة وفكرتها، وليس للدولة وقوميتها.
عملت تلك الجماعات على استراتيجية التجهيز لإحداث انقلاب عسكري سرّا في الفترة من العام ١٩٦٦ حتى العام ١٩٧٤، وجّهت خلالها أعضائها من طلبة التعليم الثانوي إلى دخول الكليات العسكرية، وشجعت الأعضاء من طلبة الجامعات على الانتقال إلى كليات عسكرية للتجهيز لانقلاب عسكري، وانتهت تلك الاستراتجية بمحاولة انقلاب عسكري فاشلة من الضابط الإخواني طلال الإنصاري ومجموعة صالح سرية، عرفت إعلاميا بقضية الفنية العسكرية، وراح ضحيتها ١٧ طالبا من طلاب الكلية الفنية العسكرية، وإصابة ٦٥ آخرون.
تبنّت الجماعات بعدها استراتيجيتين مختلفتين لإسقاط نظام الحكم في مصر، الأولى: حرب العصابات التي عرفتها مصر لأول مرة عام ١٩٧٧، فبعد فشل تجربة الإخوان المسلمين البرلمانية عام ١٩٧٦ في إحداث ما تنشده من تغيير انشقّ القيادي الإخواني يحي هاشم بمجموعة من الإخوان متخذا من جبال المنيا نقطة انطلاق لعملياته ضد الأجهزة الأمنية إلا أنّها سرعان ما انتهت تلك الاستراتيجية بالقضاء على هاشم ومجموعته.
والثانية ما أطلقت عليه الجماعات "ثورة إسلامية" بظهير عسكري من الجيش، وظلّت تعمل على تلك الاستراتيجية من العام ١٩٧٤ حتى انتهت عام ١٩٨١، باغتيال الرئيس محمد أنور السادات ومحاولة فاشلة لإسقاط نظام الحكم انطلاقا من محافظة أسيوط، فيما تُطلق عليه الجماعات تمرد ذي الحجة الإسلامي.
اجتمعت قيادات الجماعات الإسلاموية في السجن عقب اغتيال السادات؛ وكعادتهم اختلفوا حول الكثير من الأفكار إلا فكرة واحدة، وهي أنّهم في مرحلة ما قبل الدولة، مرحلة الجماعة المؤمنة التي عليها أن تسقط الدولة التي يرونها الطاغوت الذي يُعارض حاكمية الله، وكانت جماعة الإخوان المسلمين، قبل ذلك بقليل، بدأت استراتيجية العمل في مسارين منفصلين تماما، أحدهما يُمثّل الهروب إلى الأمام بالبحث عن ساحة بعيدة عن الدولة المصرية تتخذ منها ساحة للتدريب والإعداد، ووقع الاختيار على مدينة "بيشاور" الباكستانية على الحدود مع أفغانستان، مستفيدة من دورها كوسيط بين الأفغان والجهات الداعمة دوليا وإقليميا لقتال الأفغان ضد الروس.
فكان أول العرب وصولا إلى أفغانستان لتهيئة ساحة الجهاد القيادي السابق بالنظام الخاص، وأحد أبرز قيادات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الدكتور كمال السنانيري، صهر سيد قطب ورفيقه في السجن، وقبل أن يختفي السنانيري من المشهد باعتقاله في مصر سبتمبر ١٩٨١، كان قد كلّف الشيخ عبد الله عزام الذي سبق بالتوجه إلى بيشاور لإدارة مسرح العمليات.. ليبدأ عزام وأسامة بن لادن ابنا تنظيم الإخوان المسلمين مرحلة ما زلنا نعيش تبعاتها إلى اليوم، فيما يُمكن أن نُطلق عليه مرحلة التنظيمات الجبلية التي انفصلت عن المجتمع واختارت الحياة في الصحراء والجبال، بما تحمله تلك البيئة من تشابه مع الأرض التي شهدت ميلاد الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، فحيث إنّهم لا يملكون تحريك الزمن ليعود بهم إلى الماضي، فقد اختاروا بيئة تُذكّرهم به، فهم المهاجرون بدينهم من مجتمع جاهلي يرفض ما يرونه صحيح الإسلام!! في محاولة منهم لإسقاط الرفض القبلي الذي تعرّض له الإسلام في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم على الرفض المجتمعي الذي يتعرضون له، وإن بدا أنّهم قادرون على التماهي نفسيا ومكانيا مع الماضي إلا أنهم عاجزون أمام الحاضر بما يحمله من تحديات، فالقوة في حاضرنا لا يحسمها السيف بمنطق الممالك المتصارعة قديما، لكن يحسمها القدرة على الاكتشاف والبحث والدراسة والبناء والتطوير، وقبول الآخر والتعايش مع المختلف، وهذا ما لا تعرفه الجماعات الإسلاموية.

شارك