"يوميات معتقل الهايكستب "يكشف ملامح نقد جمال البنا المبكر للاخوان"

الإثنين 27/سبتمبر/2021 - 01:40 م
طباعة روبير الفارس
 
يوميات معتقل الهايكستب   كتبها المفكر الكبير جمال البنا وعثر عليها وحققها الباحث منصور ابو شافعي  في كتاب مهم . اليوميات  تبدأ من يوم السبت 11/12/1948م (أى بعد اعتقاله بيومين) وتنتهى بجزء من يوم الأثنين  13/1/1949م (و هو أول يوم له فى معتقل الطور) وتتكون من «120» صفحة.
ويقول ابو شافعي  انه أثناء بحثى – بمكتبة جمال البنا - عثرت على ظرف مكتوب عليه «الهايكستب.. أوراق المعتقل».. ففتحته ووجدت بداخله أوراق قديمة مختلفة الأحجام والأشكال وغير مرتبة، فأخذته إلى الأستاذ جمال الذى بمجرد مشاهدته ابتسم وقال: ياه.. وأخذ يقص عليّ حكاية هذا الاعتقال الذى تم ليلة حل جماعة الإخوان المسلمين فى 8/ 12/1948م واستمر ما يقرب من عامين وشمل هذا الاعتقال إخوانه (عبدالرحمن - عبدالباسط - محمد)ويقص على حكاية هذه الأوراق، وكيف كان يكتبها على مكتب بدائى مكون من سطح خشبى موضوع على أقفاص، وكرسى عبارة عن صناديق صابون، وكيف كان يوفر الورق الذى كان نادراً فى معتقل الهايكستب، وكان متوفراً بكثرة فى معتقل الطور بفضل كرم وكيل مكتب تلغراف الطور الذى كان يمنحه دفاتر الحوافظ اليومية القديمة،
يقول ابو شافعي تعاملت مع هذه «اليوميات» كوثيقة تاريخية، فمنعت نفسى من التدخل فى متنها سواء باستكمال ما هو ناقص، أو بتقديم كلمات بديلة للكلمات التى استعصى على قراءتها، أو بإعادة صياغة بعض الجمل التى تبدو فجة أو غير دقيقة، وكذلك منعت نفسى من الاختلاف أو الاتفاق مع الأراء الواردة فيها سواء كانت اراء فكرية أو تقييمية لبعض الشخصيات، ليقينى أن الوثيقة «مادة خام» لا يجوز لى سوى انقاذها من الضياع أو التبديد أو الاتلاف أو حتى السرقة، وهذا - فى يقيني - لا يكون سوى بالنشر. 
   إلى جانب هذا أقول بأن كل مافعلته هو تخريج الآيات القرآنية، والتعريف بالأسماء الواردة فى «اليوميات».. وللأهمية القصوى أضفت ثلاثة ملاحق. الأول: نص طلبات الإفراج التى أرسلها الأستاذ جمال إلى قومندان المعتقل، والثاني: نص الخطابات التى أرسلها الشيخ أحمد إلى أولاده الأربعة «عبدالرحمن - عبدالباسط - محمد - جمال» فى المعتقل، والثالث: نصوص اجابات الإخوان على أسئلة الاستفتاء الذى أجراه الأستاذ جمال فى المعتقل حول موقفهم من بعض القضايا.. وهى فى - تقديري- ليست مجرد إضافات تعمق المتن: لكنها - فى حقيقتها- وثائق:أى «مادة خام» ستضيئ لنا مناطق مجهولة فى فكر الإخوان.
ومن قراءة هذه اليوميات بكل عفويتها تتكشف ملامح الفكر المستقل والناقد لجمال البنا ضد جماعة الاخوان  فهو ينتقد قراءات  صالح عشماوى التى تضم  هذه الكتب «الرسالة الحميدية»، «الحصون الحميدية» فقه الأذكار «أول وثاني» و«فقه السنة» و«المصحف».. ويعلق جمال قائلا هكذا كانت ثقافة الأستاذ صالح عشماوى محرر الجريدة – جريدة الاخوان - ووكيل الإخوان ورئيس مجلس إدارة شركة الإخوان.كما ينتقد الانتهازية المتجذرة في فكرهم .ويكشف ان الشماتة في الموت امر متأصل  عندهم كما حدث ووزعوا الشيوكولاتة  بعد اغتيال النقراشي باشا وهذه نماذج من هذه اليوميات 
الثلاثاء 12/21/84
ماهو الفرق بين الخطأ والصواب أنه ليس أكثر من التساهل فى ناحية والضغط فى ناحية: ولا يفرق بين الخطأ والصواب إلا اصرار قصير، فياليتنا نتذكر ذلك حتى نتقى الخطأ والفشل، ونعذر إلى أنفسنا والناس.
قضينا أمس مساء فى حجرتنا سهرة رائعة فقد تآمر بعض الزملاء على العبث بالأستاذ عابدين  الذى كان له سكرتير خاص مهمته الوحيدة تغطيته قبل النوم تغطيه منظمة وكانت المؤامرة أن يربط بحزام من الجلد بعد أن يغطي، وقد كشفت المؤامرة وتبودل العتاب، ثم اطفئت المصباح وجذب كل واحد بطاطينه الثلاث على وجهه استعداداً للنوم، سأل الحاج عبدالله الصولى - الأستاذ عابدين عن الحالة الحاضرة فدار نقاش طويل ممتع أطار النوم عن عيوننا واشترك فيه الأستاذ عابدين وطاهر الخشاب وعبدالرحمن الساعاتى -- وسعد الوليلى وعبدالله الصولى وأنا وصالح عشماوى -- سأوجز هذا النقاش فى الكلمات التالية: 
عابدين: يرى الناس أن الإخوان قد انكشفوا بحلهم، لأنهم توقعوا أن لا أحد يستطيع حلهم، وأنهم إذا حلوا قامت القيامة من وجهة من يجرؤ على ذلك، وقد يكون ذلك حقاً. ولكنه من وجهة نظر أخرى قد سترهم، فالسودان الآن تباع بيعاً، واندونيسيا يغدر بها. وفلسطين تضيع يوماً فيوماً، وكان الناس يتوقعون من الإخوان انقاذ هذه الأوضاع كلها، والإخوان فى الحقيقة كانوا أعجز من أن يفعلوا شيئاً، فحلهم فى الواقع كان ستراً لهم فى هذه الآونة الدقيقة وتخليصاً لذمتهم أمام التاريخ، ومن ناحية أخرى فإن تورط الإخوان فى الشركات قد أساء إلى الإخوان عدة إساءات فأذهب الاخلاص من الإخوان، ونفى الصفة التجريدية، وأوجد مظاهر كنا فى غنى عنها، والتزمنا من جراء ذلك كله بالتزامات ليست فحسب منافية للدعوة بل أيضا قد شغلت وقتها وقلوب أعضائها، واضطرتنا إلى أن نتخلى عن كثير من مبادئنا، بل وأن نطأها بالنعال.
طاهر الخشاب: أعوذ بالله من مغالاتكم.
عابدين: أى مغالاة، لقد اضطررت إلى أن تكتب مقالة طويلة عريضة فى الجريدة تشيد فيها بجروبى كما  لو كان هو الفتح الإسلامى المنتظر، وكتبت مقالة عن شركة «شل» وهى أصل الاستعمار ووكر الجاسوسية الإنجليزية وعميدة الشركات الرأسمالية ترفعها إلى السماء، ولجأت إلى الاقتراض بالربا، فلو كانت المبادئ توضع تحت النعال لكنت قد وضعت مبادئك تحت ستين ألف نعلاً!.
صالح عشماوي: ولا تنسى أن تصفية هذه الشركات قد رفع عن كاهلنا -من الناحية المادية- مسئولية طالما أقلقتنا.
عابدين: لا شك فى ذلك، وقد اجتمعنا مراراً وتكراراً لايقاف الجريدة وكانت الأصوات فى إحدى الجلسات 11 ضد 2 ومع ذلك فلم نستطيع، فجاء النقراشى -- فأوقفها بجرة قلم، وأراحنا منه، فـأنا شديد الرضا والاطمئنان إلى ما حدث، ولو كان الأمر العسكرى مهتدياً بفعل السماء لما جاوز ما افترضته فى مذكرتى التى قدمتها إلى الهيئة التأسيسية. 
جمال البنا: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا ترفع خطاب شكر إلى النقراشي، وترفع القنوت فى الصلاة.
عابدين: لا جرم أنه يستأهل، لولا أن الأعمال بالنيات. 
وانتقل المجلس بعد ذلك إلى مناقشة الوضع فى المستقبل بعد أن انتهى إلى أن الوضع الحالى خير كثير.
فقال عبدالله الصولي: أنا أرى أن نؤسس الإخوان تأسيساً جديداً بعد انتهاء الأحكام العرفية فنظهر الناحية السياسية منها علانية، ويطلق عليها حزب الإخوان المسلمين أو أننا ننضم إلى الحزب الوطنى 
جمال البنا: إذا كان هناك انضمام فالأجدر أن ينضم إلينا الحزب الوطنى لا أننا ننضم إلى الحزب الوطني.
سعد الوليلي: هؤلاء أناس لا يوثق بهم، ولقد سبق للأستاذ المرشد أن جس نبضهم فى حديثه مع زكى باشا  الذى كان يريد به أن يوكل اشراف الناحية السياسية فى الجريدة إليهم فرفضوا.
الخشاب: ليس هذا صحيحاً فالواقع أن الأستاذ «المرشد» أراد أن «يلزق» لهم الجريدة وجميعهم من ذوى الناب الأزرق.
الوليلي: على كل حال ليس فى الحزب الوطنى الآن سوى فتحى رضوان وهو من لا يطمئن إليه [أمّن الجميع على ذلك وأجمعوا على أن فتحى رضوان متلاعب].
عابدين: الصورة التى تبدو لى عن الإخوان الجديدة بعيدة كل البعد عن النواحى السياسية والحزبية. 
الوليلي: عندما حج الأستاذ المرشد حجته الأخيرة ولمس حاجة البلاد الإسلامية إلى الرجال فكر فى فض الناحية السياسية والاقتصار على التبليغ الإسلامى والدعوة إلى الله.
عشماوي: أوافق على ذلك، الدعوة إلى الله يجب أن تكون الفرض الأول للجماعة وستجدون فى البلاد الإسلامية متسعاً ويلزم لذلك أمران: الأول أن يحرم أى اشتراك للأعضاء فى شركات أو أعمال مالية، والثاني: أن يفصل فصلاً تاماً بين الناحية العملية والناحية المبدأية، ويكون تدخلنا فى الناحية العملية بارسال أعضاء ممن يوثق بهم إلى الاحزاب الأخرى حتى يؤثروا فيها ويتجهوا بها الوجهة الإسلامية حتى تبين نواح الدعوة.
الخشاب: خيال فى خيال
الصولي: كيف يكون خيالاً.؟ 
عابدين: المقصود بذلك أنه ليس لديك  الرجال الذين يملأون المراكز فى الاحزاب والتى ترحب بهم الأحزاب حتى يؤثروا فيها، فلو وضعت الاستاذ طاهر «الخشاب» مثلاً -وهو خير من عندك- لما جاء فى الحزب السعدى إلا ما يقل عن مائة.
الخشاب: اسكت يامغفل..
عابدين: أنك لن تجاوز ذلك، لا لأنك أقل كفاءة ولكن لأن لهم نظماً خاصة، ثم أن الاقتراح كله غير عملي، فإذا أخذت بأسباب الدين فأنك لن تتقدم فى الاحزاب.
جمال البنا: أنا أرى الفصل الكامل، والاقتصار على الناحية الروحية، فأن هناك طريقتين للاصلاح: الأولى اصلاح الوضع ، حتى يمكن اصلاح النفوس وهذه هى طريقة الماديين والحيويين  والثانية: باصلاح النفس وهذه تؤدى إلى اصلاح الأوضاع، وهى طريقة الدين، ولابد من انتهاج واحدة فحسب أما الاشتراك فخطأ، ومن ناحية أخرى فإن الإخوان المسلمين ستكون عالمية حقاً، ومن حق هذه العالمية عليها أن تتجرد لها، وتكرس لها كل جهودها ولا تفرق بين البلاد أو أن تعنى بصفة خاصة ببلد، حتى وإن كان بلدها، وقد قلنا ذلك من قبل فكدتم ترموننا بالزندقة، أما العناية بمصر وشئونها فدعوها للذين لا يؤمنون بغير مصر.
وفي يومياته الخميس 03/21/84  كتب يقول: فى الفترة ما بين الظهر والعصر من يوم الثلاثاء الماضى انتشرت الاشاعات فى المعتقل بأن النقراشى باشا قد اغتيل بيد ضابط.. وبقدر يئس الإخوان، تجمع الإخوان جماعات، جماعات، وكان مصدر الخبر بعض نفر من البوليس والعمال الذين يعملون فى التصليحات بالمعتقل، وظللنا بين مصدقين  ومكذبين حتى تواترت الروايات وتضاءل الشك وثقلت كفة اليقين، عندئذ كنت ترى الإخوان يتعانقون فى الحوش والحجرات ويكبرون ويديرون الآيات على ألسنتهم «فلم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي» -- «ولو تواعدتم لاختلفتم فى الميعاد» -- إلى آخر هذه الآيات والأحاديث والاشارات بالمعجزات الالهية، وصار كل واحد يرى أن ذلك إنما تم تصديقاً لرؤيا رآها، أو دعاء دعا به، بينما أمر وكيل المخزن بشراء شوكولاته على حسابه الخاص (وقد وزعت أمس، وكانت لذيذة) ولعلى كنت الوحيد الذى لا يشارك هذا الجمهور المتحفز المتحمس عاطفته.
وتحت تاريخ السبت 1/1/94  كتب جمال البنا  يقول 
قضينا أمس تلك السهرة العاطفية فى حمى دينية تملكت الحاج عبدالله الصولى وعبده قاسم -- والحاج حلمى المنياوى -- والاستاذ عبدالرحمن، فبدأوا بالمأثورات ثم ورد الاستغفار ثم كلمة «حسبى الله ونعم الوكيل» 413 مرة، وكلمة «أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة»، وأخيراً «يامنتقم ياجبار، ياشديد البطش ياقهار» وقدمت هذه الابتهالات احتساباً إلى الله فى سبيل معاقبة عبدالرحمن عمار -- وفريد - وغيره وغيره.. وهكذا نمت آخر ليلة فى سنة 8491م، وأصوات الابتهالات تتردد فى عنبرنا.
علمنا أمس أن مجلس البوليس الأعلى قد عاقب عبدالباسط بتنزيله درجة إلى كونستابل ممتاز، مما آلم هذا على النفس!، أننى لأرثى لعبدالباسط فى معتقلى لأنه، وإن كان عديم الاكتراث، إلا أن ظروفه المادية قاسية، وهو الآن بعد خدمة أكثر من عشرة سنين كالميت، فى هذا البلد الذى لا يقدر إلا الشهادات.
يخطر لى أكثر من مرة أن أكتب إلى إدارة المعتقل طالباً الافراج ثم يثنينى عن ذلك عدة اعتبارات -- فأنا لا أريد أن أبرز فى أوساط المحافظة بشئ ما، وأنا كذلك أريد أن أفكر أكثر وأكثر فى الموقف. 
أما بالنسبة للإخوان، فإنه ليبدو فى تحسن، وفى فكرى أشياء كثيرة كنت أود لو أكتب بها للاستاذ ولكنى لا أجد ورقاً أكتب عليه نقدى -- وقد قرأت اليوم «أخبار اليوم» وفيها عدة كلمات عن مقتل النقراشى باشا تليت بين هدوء الإخوان وسخريتهم، والواقع أن هناك هوة كبيرة بين الإخوان وبين الرأى العام والمثقف الممثل فى البرلمان والسياسة والصحافة، وما لم يتبادل الفهم فإن الأمور ستسوء وستتطور لأن أحداً من الحكومة أو الإخوان لن يسلم.

شارك