بوابة الحركات الاسلامية : الإجماع في الشريعة الإسلامية (طباعة)
الإجماع في الشريعة الإسلامية
آخر تحديث: الأربعاء 12/08/2020 03:43 ص حسام الحداد
اسم الكتاب: الإجماع في الشريعة الإسلامية
المؤلف: علي عبد الرازق
الناشر: الهيئة العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – سلسلة العلوم الاجتماعية
اشتهر علي عبد الرازق بكتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي يرى البعض أنه يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، بينما يرى البعض الآخر أنه أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، والكتاب أثار ضجة بسبب آرائه في موقف الإسلام من "الخلافة" حيث نُشِر الكتاب في نفس فترة سقوط الخلافة العثمانية وبداية الدولة الأتاتركية، بينما كان يتصارع ملوك العرب على لقب "الخليفة"؛ رد عليه عدد من العلماء من أهمهم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر بكتاب "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية، وهو ما اعتبره الكثير من المفكرين رداً سياسيا من الملك فؤاد الأول- ملك مصر وقتئذ-، وشن حملة على رأيه.
أما الكتاب الذي بين أيدينا الآن فلا يقل أهمية بحال عن كتاب الإسلام وأصول الحكم، ففي هذا الكتاب يناقش علي عبد الرازق قضية من أهم قضايا الفقه الإسلامي وهي قضية "الإجماع"، والذي يعد المصدر الثالث للتشريع الإسلامي بعد القرآن والسنة.
حيث اختلف الأصوليون في تعريف الإجماع اصطلاحاً تبعاً لاختلافهم في كثير من مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه.
والتعريف المختار أن الإجماع هو: اتفاق مجتهدي الأمة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان.
ولكي يتضح هذا التعريف فلا بد من شرحه وذكر محترزاته:
فاتفاق معناه: الاشتراك في الرأي أو الاعتقاد، سواء دلّ عليه الجميع بأقوالهم جميعاً، أو بأفعالهم جميعاً، أو بقول بعضهم وفعل بعض، وهذا كله يسمى بالإجماع الصريح، أو بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر، وهذا يسمى بالإجماع السكوتي، وبهذا يكون التعريف شاملاً لقسمي الإجماع: الصريح والسكوتي.
أما مجتهدو الأمة: فالمجتهد: هو الذي يبذل وُسعه في طلب الظن بحكم شرعي على وجه يُحس معه بالعجز عن المزيد عليه.
والأمة: هي الطائفة من الناس تجمعها رابطة، والمراد بها: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: أتباعه المؤمنون به في أي زمان، وهم أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
وقد خرج باتفاق مجتهدي الأمة: 
1- اتفاق المقلدين والعوامّ؛ فإنه لا يعد إجماعاً شرعياً.
2- اتفاق بعض المجتهدين؛ فإنه لا يعد إجماعاً.
3- اتفاق مجتهدي غير هذه الأمة.
أما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيخرج به اتفاقهم في حياته، فإنه لا عبرة به، قال الآمدي: وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي بالإجماع، وإنما يكون حجة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. الأحكام للآمدي 1/109 .
وأما في عصر: فالمراد به الاتفاق في أي عصر كان، فدخل بهذا القيد: اتفاق المجتهدين في أي زمان كان، سواء كان في زمن الصحابة أم من بعدهم.
وفي هذا دفعُ توهّم أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق المجتهدين في جميع العصور، وهو محال. انظر الأحكام للآمدي 1/196، وحاشية البناني على المحلي 1/176 .
وعلى أي أمر كان: المراد به الحكم الذي اتفق عليه المجتهدون، ويشمل:
1- الأمر الديني: كأحكام الصلاة، وتفسير آية أو حديث.
2- الأمر الدنيوي: كترتيب الجيوش والحروب، وتدبير أمور الرعية.
3- الأمر العقلي: كحدوث العالم.
4- الأمر اللغوي: ككون الفاء للترتيب والتعقيب.
وفي بعض التعريفات خُصّ الأمر المتفق عليه: بالأمر الديني، ويمكن التوفيق بين من عمم ومن خصص، بأن يقال: إن المُعمم قصد بالأحكام الدنيوية أو اللغوية أو العقلية: الأحكام التي يتعلق بها حكم شرعي، فيكون الإجماع حينئذ ليس مقصوداً لذاتها، بل لما يلزم منه.. 
وأما من خصص فمراده من الأمور الدينية ما هو أعم من الأحكام الشرعية يشملها هي وما تستلزمه.

مكانة الإجماع

وأما مكانة الإجماع: فالإجماع حق مقطوع به في دين الله عز وجل، وأصل عظيم من أصول الدين، ومصدر من مصادر الشريعة، مستمد من كتاب الله الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتالٍ لهما في المنزلة.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ. انظر العُدة 4/1058 .
ولذلك كان حتماً على الطالب للحق المتبع لسبيل جماعة المؤمنين، المبتعد عن مشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرف ما أجمع المسلمون عليه من مسائل الشريعة العلمية والعملية، ليستنَّ بسلفه الصالح، ويسلك سبيلهم، ولئلا يقع في عداد من اتبع غير سبيل المؤمنين، فيحق عليه الوعيد المحكم في قوله جل ذكره: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}. (النساء: 115).
قال ابن حزم رحمه الله: ومن خالفه- أي الإجماع- بعد علمه به، أو قيام الحجة عليه بذلك فقد استحق الوعيد المذكور في الآية. انظر مراتب الإجماع لابن حزم، ص7.
ليس هذا فقط بل يقوم الشيخ علي عبد الرازق على امتداد صفحات الكتاب بعرض الآراء المختلفة للعلماء في ذات الموضوع، فيسوق آراء وحجج من أنكر إمكان الإجماع ويناقشها ويقدم لحججهم مستدعيا كلمة الإمام أحمد بن حنبل ومقولته المشهورة: من ادعى الإجماع فهو كاذب. ليوضح أنه ليس مراده بها نفي وقوع الإجماع أو حجيته قطعاً؛ لكون الإمام يحتج به، ويستدل به في كثير من الأحيان، وقد حملها العلماء على عدة أوجه، ومن أحسنها: أنه قال ذلك على سبيل الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك في حق من ليس له من معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك تتمة كلامه السابق حيث يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه.. أي إذا لم يبلغه في المسألة خلاف.
وقد دلت عدة أدلة على حجية الإجماع نذكر منها:
الدليل الأول: قوله تعالي: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}. (النساء: 115)، وأول من استدل بهذه الآية الشافعي رحمه الله، ثم تبعه الناس على الاستدلال بها.
وجه الاستدلال من الآية: أن معنى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم منازعته ومخالفته فيما جاء به عن ربه، ومعنى {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ما اختاروه لأنفسهم من قول أو فعل أو اعتقاد؛ لأن سبيل المؤمنين مفرد مضاف فيعم هذه كلها، وقد جعل الله كلاً من المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين موجباً للعقاب؛ لأنه عطف بعضها على بعض بالواو المفيدة للتشريك في الحكم، فيلزم أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرماً، كما حرمت مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني: قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143).
وجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله تبارك وتعالي عدلهم بقبول شهادتهم، ولما كان قول الشاهد حجة يجب العمل بمقتضاه، إذ لا معنى لقبول شهادته إلا كون قوله حجة، فيدل هذا على أن إجماع الأمة حجة يجب العمل بمقتضاه وهو المطلوب.
الدليل الثالث: قوله جلا وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 110).
وجه الدلالة: أن الألف واللام إذا دخلت على اسم جنس دل على العموم، وعلى ذلك تكون الآية إخباراً من الله سبحانه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وصِدْقُ خبر الله تعالي يستلزم أنهم إن نهوا عن شيء علمنا أنه منكر، وإذا أمروا بشيء علمنا أنه معروف، فكان نهيهم وأمرهم حجة يجب اتباعها.
الدليل الرابع: قوله تبارك وتعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59).
وجه الدلالة: أن الله سبحانه شرط لوجوب الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد، وأن الاتفاق منهم كافٍ حينئذٍ عن الرد إلى الكتاب والسنة، ولا معنى لكون الإجماع حجة إلا هذا. وهذا الدليل لا ينسجم مع كلام شيخ الإسلام وقد تقدم.
الدليل الخامس: جملة الأحاديث الدالة على لزوم الجماعة، وتعظيم شأنها، والإخبار بعصمتها عن الخطأ ومنها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون". رواه البخاري 13/293 .
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". رواه أحمد. 
3- وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية". متفق عليه.
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث وغيرها: أن هذه الأحاديث ونحوها، وإن لم يتواتر كلّ واحدٍ منها لفظاً إلا أن القدر المشترك بينها-وهو عصمة الأمة- متواتر فيها؛ لوجوده في كل منها، وإذا ثبتت عصمة الأمة تواتراً كان ذلك دليلاً على حجية الإجماع.
ومباحث الإجماع طويلة الذيول لا يمكن أن نأتي عليها في هذه الفتوى فلتراجع في أماكنها من كتب الأصول، لكننا سنقف مع مسألة لها علاقة بالنقطة الثالثة في السؤال، هذه المسألة: هي هل يمكن تحقق وقوع الإجماع على النحو الذي أشرنا إليه؟
لا خلاف بين العلماء في وقوع الإجماع على الأحكام التي تعلم من الدين بالضرورة، ولكن وقع الخلاف في وقوع الإجماع في الأحكام الظنية، على مذهبين:
المذهب الأول: إمكان وقوع الإجماع فيها، وإلى هذا ذهب الجمهور، وهو الصحيح، وليس أدل على ذلك من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، مثل الإجماع على تقديم الدَّيْن على الوصية، وحرمة شحم الخنزير كلحمه، والإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو رائحته بنجاسة، لا يجوز الوضوء منه.
المذهب الثاني: أن هذا الإجماع مستحيل الوقوع، وذهب إليه النظام المعتزلي، وإمام الحرمين، وكثير من المعاصرين، واستدل لأصحاب هذا المذهب على ذلك بأن أهل الإجماع قد انتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم، منهم وإليهم عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق منهم على حكم معين، ويجاب عن ذلك بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم، وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن تنقل الواقعة إلى جميعهم، ويستطلع رأيهم فيها.
نستخلص مما تقدم وما يريد قوله الشيخ علي عبد الرازق أن الإجماع كمصدر مهم من مصادر التشريع الإسلامي به خلاف بين العلماء في معظم جوانبه بداية من تعريفه وانتهاء بوجوبه والاستناد إليه.