بوابة الحركات الاسلامية : علي مبروك.. نقد "القداسة" في التراث (طباعة)
علي مبروك.. نقد "القداسة" في التراث
آخر تحديث: الأربعاء 20/10/2021 09:10 ص حسام الحداد
لم يكن أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة بل كان مشروعًا فكريَّا وثقافيًّا لم يمهله الوقت ليكتمل المشروع، فكان يفكر في قضايا وإشكاليات علمية خاصة بالمرحلة الراهنة فهو امتداد لمدرسة تشق طريقها في الفكر العربي بصعوبة شديدة، وهي مدرسة مُساءلة التراث بالعقل، فهو يربط القضايا التراثية بالواقع المعيش والحاضر، فضلًا عن عدم إغفاله للبعد التاريخي لهذه الظواهر.
ولد الدكتور علي مبروك في 20 أكتوبر عام 1958م، حصل مبروك على درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية - علم الكلام عام 1988، وعلى درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1995، من جامعة القاهرة.
عمل الدكتور علي مبروك في العام 2003 أستاذًا مساعدًا للدراسات الإسلامية، بقسم الدراسات الدينية، بكلية الإنسانيات في جامعة كيب تاون، بجنوب أفريقيا، كما شغل منصب عضو مجلس تحرير مجلة "أدب ونقد"، والتي تصدر في القاهرة، بالإضافة إلى مقالاته بجريدة الأهرام.

آراؤه:

وللدكتور علي مبروك الكثير من الآراء الجديرة بالالتفات والمناقشة؛ حيث يرى أن العقل العربي الراهن يعيش أزمات اقتصادية وسياسية وثقافية لكونه عقلاً غير فاعل، وعاجزًا عن إبداع حلول لمشكلات واقعه‏، كما أن الفكر العربي صار ناقلا مقلدا مكررا بغير فهم لأفكار السلف‏،‏ فلم يأتِّ بحلول جديدة لمشاكل واقعنا العصري‏،‏ وهو ما يتطلب تغيير البنية العقلية لثقافة المجتمع من خلال وسائل إعلامية وتعليمية جديدة‏.
كما تميز مبروك بما يعرف بـ«نقد النقد»، إذ قدم مراجعات وملاحظات على مشروعات نظرائه على طريق الفكر، ورؤيتها في إطار نقدي، اجتهد خلاله في كشف التناقضات والتباينات الفكرية في التراث والمشروعات الفكرية التي تناولته بالنقد والتحليل.
في كتابه «ثورات العرب»، قال إنه "من الضروري ترسيخ خطاب التأسيس للحداثة العربية الذى يبدأ بقراءة وإدراك الواقع وتجنب التعميم والتلفيق ومعالجة الانقسام الذى تعيشه الدول العربية وخاصة مصر، وضرورة التحرر ليس برفض الدين أو الحداثة بل بتجاوز «خطاب القوة» الذى استبد بهما والانتقال إلى «خطاب الحق» الذى جرى تغييبه عنهما".
وأكد، أن تجديد الخطاب الديني هو إصلاح الفكر الديني، أي المنتج البشري لفهم الدين والنصوص، الذي قد يكون صحيحًا أو تشوبه أخطاء‏.
وعن كتابه "الخطاب السياسي الأشعري" والذي طرح فيه الكثير من الأسئلة على العقل العربي يقول: "كيف يتحكم فينا التراث لهذا المدى العميق؟ كيف يحتل، وبقوة، الوعي الجمعي العربي/المسلم للدرجة التي يبدو معها وكأن هذا التراث هو أمر "طبيعي"، أمر كوني لا نملك سوى أن نسير وفقاً لصيرورته، لا نملك سوى الانقياد خلفه، فلا شيء وراء هذا التراث المهيمن ولا ثقافة غيره ... إن ما نفعله حتى الآن ليس إلا العيش على محض الأماني أملاً في تجاوز ما نحن فيه من استبداد دون أن ندرك أن بنية الاستبداد عندنا تتجاوز المستبدين كأشخاص لتصل للاستبداد كأساس في الثقافة التي هيمنت ورسخت طوال قرون من التاريخ العربي الإسلامي؛ فـ "إذ هو الانتقال - ابتداءً من أن كل ممارسة تكون مشروطة بخطابٍ يؤسس ويوجه - من عالم الممارسة إلى نظام المعنى والخطاب، فإن التعاطي مع ظاهرة الاستبداد لا بد أن يتجاوز مجرد السعي إلى إزاحة سلالة المستبدين، رغم الأهمية القصوى لذلك، إلى إزاحة الثقافة التي تنتج الاستبداد، فتنتجهم. وهنا يلزم التنويه بأن إزاحة ثقافة ما، لا يعني أكثر من أن تصبح موضوعاً لهيمنة الوعي، على نحو يقدر معه على تجاوزها، وذلك بدل أن يكون هذا الوعي هو الموضوع لهيمنتها، فتبقى مؤبدة التأثير والحضور".. ص: 131.
ومن هنا فالاستبداد "راسخ" في تراثنا الذي هيمن، وبالتالي فهو راسخ في وعينا الذي يبدو أنه قد اكتفى بالنقل والترديد والافتخار بالمقدرة على الحفظ دون أي محاولة لإعمال العقل أو للفهم.
والحق أن "تفكيكاً لظاهرة الاستبداد العربي لا يمكن أن يتحقق خارج فضاء الأشعرية، كخطاب وثقافة، وليس كمذهب وعقيدة" ... ص: 131.
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، وهو كتاب قليل في عدد صفحاته - 132 ورقة تقريباً - لكنه يجعل أعصابك ملتهبة من فرط الغضب حينما تدرك - بطريق معرفي - أن الاستبداد يستقر في الخطابات التي كُتبَ لها أن تتسيد فضاء الثقافة الإسلامية/ العربية .. عن الكيفية التي تم التعامل بها مع السياسة المستبدة على أنها شأن "طبيعي" لا راد لها ولا أمل ولا نجاة حينما تثور ضدها ... عن مسار العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام والمقارنة بينه وبين الوضع في المسيحية ... عن الكيفية التي صار بها الديني قناعاً للسياسي أو عن الكيفية التي أصبح الله بها (قناعاً) للسلطان المستبد ... عن الكيفية التي تم بها ترسيخ فكرة أن الحاكم/الإمام/الخليفة لا يأتي إلا بأمر من الله ولا راد لقضاء الله، فبالتالي لا راد لحكم هذا الحاكم مهما طغى واستبد.
ولعلك تندهش - بعض الشيء أو كله - إن علمت - مثلاً - أن عالم السياسة الأشعري مبني بالكامل على قاعدة الانفلات من التقيد بقانون، وإذا أدركت كذلك أن خطاب الأشعرية العقائدي هو الخطاب الذي هيمن في فضاء الثقافة الإسلامية، فلعلك تدرك أن جوهر الأزمة، التي نعاصرها الآن، تراثي بالأساس، ولا سبيل ولا مخرج إلا بنقد هذا التراث ومحاولة فهمه واستيعابه.
محاججات الكتاب كثيرة، والبحث المعرفي مكثف لمن أراد أن يفهم أو أن يقترب ولو بمقدارٍ ضئيل من الحقيقة، فهل من قارئ يرغب في الفهم؟
عن أزمة تراثية ما زالت تحيا فينا، أو نحياها ... أو لعل الوصفين صحيحان، فنحيا فيها "تاريخاً" وتحيا فينا "وعياً وثقافة وممارسة"؛ سواء كنا ندري أو لا ندري.
وفي كتابه "لاهوت الاستبداد" يستعرض مبروك في بداية كتابه الصراع الدائم في الحضارة العربية بين “العقل” و “النقل” في إطار المدارس الفكرية، أو الكلامية العربية بداية من المعتزلة والأشاعرة، تلك الثنائية التي انتجت ثنائيات متعددة في إطار هذا الصراع والتي يتمثل بعضها في ثنائية الإنسان كفاعل ومسئول عن أفعاله والإنسان كمفعول به، أو بين الإنسان الحر المسئول عن حريته واختياره، وبين الإنسان المجبر الخانع المستكين، وتلك الثنائيات لا تبتعد كثيرا عن علاقة الإنسان بالحاكم فالخليفة أو الامام أو الملك، أيا كان المسمى في الفريق الأول "النقل"، هو ظل الله في الأرض لا يجب الخروج عليه فهو ممثل السلطة الدينية والزمنية في نفس الوقت، أما الفريق الثاني فالإمام لديه بشر يصيب ويخطئ ويحاسب إن أخطأ، وان كان ظالما يجب الخروج عليه، تلك الجدلية التي تجسدت في صراعات كثيرة في الحضارة العربية، ويلخصها على مبروك في مفتتح كتابه.
ويؤكد مبروك ارتباط “اللاهوت” “بالناسوت”، حيث أنه عند دعاة النقل أنفسهم “الأشاعرة” فإنه لا قول في “الغائب” إلا قياسا على ” الشاهد” وبالتالي فان الاختلاف في صفة الله وفعله لا يمكن أن يكون ناشئا عن معاينتهم لله، بل انه ناشئ عن التباين بينهم حول الإنسان والعالم المتعين؛ فيقول على مبروك: “رغم ان اللاهوت يقصد وبالأساس إلى بناء تصور لله يحوز فيه كل صفات الإطلاق والتعالي والجلال، فإنه – ولكونه يبقى في العمق خطابا بشريا حول الله – يظل مسكونا بكل ضروب التحيزات والتحديدات التي ينطوي عليها عالم البشر.
وهكذا فان القول في الله يستحيل الى مرآة كاشفة عن طبائع البشر بأكثر من كونها كاشفة عن طبيعة الله. ومن هنا ان القول في صفات الله وافعاله قد تحول – بين متكلمي الاسلام – الى ساحة صراع تعكس – وراء لغة التسامي والعلو – التنازع على صفة الإنسان وفعله، والى حد ما يمكن قوله من أن اللاهوت هو – في الحقيقة – قول في الناسوت".
يعقد علي مبروك مقارنة بين مصر أواخر القرن الثامن عشر ومصر الآن، وأن التغيير الذي طالب به المصريين في أواخر القرن الثامن عشر لم يختلف كثيرا عن ما يطلبه المصريون الآن، حيث أنه في الحالة الأولى كانت أنوار العقل خافتة لذا ظهرت القوة على السطح وأنها هي المؤهلة وحدها لأحداث تغيير، أما في حالة مصر بعد 25 يناير 2011، لم تكن أنوار العقل غائبة تماما بل مازالت خافتة ولا تستطيع بحال القيام بفعل التغيير وبالتالي أخذت القوة والتي مازالت حاكمة إعادة إنتاج نفسها ضمن شروط متحولة، مما يعني أن ما جرى في مصر خلال قرنين من الزمان لم يتمخض عن تغيير ذي بال من طبيعة الأصل المنشئ للتغيير فيها، فقد ظلت القوة على نفس حالها، كفاعل رئيس وظل العقل مجرد هامش على حواف المشهد.
يؤكد هذا ما كتبه علي مبروك على لسان المعلم يعقوب “أن تغييرا في مصر لن يكون نتاج أنوار العقل، أو اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، وإنما تغيير تجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء”، ويعلق مبروك: تكشف عبارة “المعلم يعقوب” – وهو أول قائد عسكري قبطي قاد أول جيش مصري خالص منذ أيام الفراعنة- عن وعي مدهش، بأن الأصل في فعل “التغيير” هي “أنوار العقل” التي هي بدورها نتاج اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، فإن خلو مصر من شيء منها عند أواخر القرن الثامن عشر، قد جعله يدرك أن “القوة القاهرة” هي المؤهلة وحدها للقيام مقامها. ومن هنا جاء تسلل “القوة” لترقد في رسوخ ضمن التلافيف العميقة لبنية ما يقال أنها “الدولة العربية الحديثة”.
فقد كشفت انتفاضات المصريين التي بلغت ذراها، مع علي بك الكبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، عن ان التغيير كان مطلبا يلح عليهم، وذلك قبل أن يفاجئهم نابليون، على رأس جيش عند نهاية هذا القرن بالضبط، ولكن أداة التغيير الرئيسية (التي هي العقل) لم تكن حاضرة آن ذاك، وربما ليست حاضرة حتى الان.. فلا تزال “القوة” هي آلة التغيير وأداته، وان راحت تتغير اشكال حضورها التي يبدو أن مصر تشهد بعد ثورتها الأخيرة، شكلا مستجدا لحضورها يتمثل في ممارستها بالحشد للجمهور المتحمس، بعد ان كان الجيش هو شكل ممارستها الغالب على مدى عقود.
ينتقل على مبروك إلى الثقافة ودورها في تكريس الاستبداد والعنف بسبب هيمنة الخطاب الأشعري على الفضاء الثقافي العربي فيقول “وإن تكون الثقافة في حقل ما يؤسس للاستبداد والعنف، فإن ذلك يعني أن كافة المنضوين تحت مظلتها الواسعة – وعلى تباين انتمائهم الأيديولوجي- سوف يكونون حاملين لجرثومة الاستبداد والعنف، حتى ولو كانت في حال الخمول وعدم الفاعلية عند البعض من هؤلاء، وبحسب ذلك، فإنه ليس ثمة فارق بين الدولة والقائمين عليها وبين خصومها أدعياء الإسلام السياسي وغيرهم، وفقط فإن الفارق بينهم حسب على مبروك يتمثل في نوع البيارق التي يمارسون تحتها الفرقاء عنفهم واستبدادهم".
فإذا ظلت الدولة العربية موصومة بالتسلطية، بكل ما يصاحبها من القمع والعنف، على تنوع الأيديولوجيات الحداثية (ليبرالية، قومية، علمانية، يسارية.. الخ) التي تبرقعت بها، فإن الأمر لم يختلف حين أصبحت أيديولوجيا الإسلام السياسي هي البرقع الذي التف على رأس الدولة في مصر في أعقاب ثورتها.
وهنا يلزم التنويه كما يؤكد الكاتب بأن ما ظهر من عجز الأيديولوجيات الحديثة المتبدلة على السطح في الواقع العربي عن إخراجه من أزمة جموده وتقليديته، إنما يرتبط بخضوعها لهيمنة نظام الثقافة الذي ينتجها كنماذج لابد من فرضها من الأعلى على نحو اكراهي، وليس كمجرد تجارب مشروطة بسياقات تاريخية ومعرفية لا فعالية لها خارجها.

مؤلفاته:

وله عدة مؤلفات عربية وإنجليزية، لاقت ترحيبًا واسعًا من القراء والمتخصصين، أهمها:
• النبوة... من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ عن دار التنوير في بيروت.
• السلطة والمقدس.. جدل السياسي والثقافي في الإسلام.
• لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا.
• ثورات العرب – خطاب التأسيس عن دار العين.
• الدين والدولة في مصر – هل من خلاص؟
• مأزق التنوير.. ملاحظات أولية.
• أفكار مؤثمة من اللاهوتي إلى الإنسان.
كما أصدر مؤخرا كتابا عن الهيئة المصرية للكتاب تحت عنوان «في لاهوت الاستبداد والعنف.. والفريضة الغائبة في خطاب التجديد الإسلامي»، وقبل أيام من رحيله أصدر كتابه «الأزهر وسؤال التجديد».

وفاته:

تُوفى المفكر المصري الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث، بجامعة القاهرة، صباح يوم الأحد 20 مارس 2016، بعد صراع قصير مع المرض، وهو في العقد الخامس من العمر.
للمزيد عن كتاب "في لاهوت الاستبداد والعنف" ۔۔۔۔ اضغط هنا

المزيد عن علي مبروك