الخلافة.. أم الوطن؟

السبت 07/مايو/2016 - 08:02 م
طباعة
 
لو جاءني من له قوة وقدرة فخيرني بين خلافة ووطن قومي، علما أني حساسيتي إسلامية،   لاخترت الوطن القومي الحديث، لا تستغرب ولا تتسرع بالحكم علي قبل أن تطالع حجتي. 
تنظر بعض الحركات الاسلامية للتغيير بإقامة دولة إسلامية في قطر من أقطار الأمة الاسلامية، ثم تواصل الزحف دولة دولة، قطرا قطرا، إلى أن تبلغ المقصد؛ خلافة على منهاج النبوة.
قد ينجحون في ذلك جزئيا مثل حال دولة أبي بكر البغدادي، وقد يوفقون بالزحف كليا، فالسياسة فن الممكن، لكن يستحيل أن يقيموا خلافة على منهاج النبوة، ذلك أن منهاج النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، ومفعم بالأخلاق، ومؤطر بعمق النظر، ومحاط بحرية الرأي وآداب الاختلاف، وما نرى عند أصحابنا إلا بضاعة مزجاة وفكر متخلف ومنهج يسيجه التسطيح والاستبداد، وسمت سمج، وشيم لا تسر الناظرين وسمعة تقرف السامعين. 
كثيرا ما تنصب مساءلة هذا التصور على صحة الأدلة الشرعية وفقه أحاديث الخلافة، وهو منطلق مهم، لكنه غير حاسم، أما أنا فأفضل مساءلته انطلاقا من رصيد الرشد الذي بلغته البشرية منذ خلافة الصحابة الكرام إلى نظام الحكم الديمقراطي الذي احتضنه الوطن القومي بعد نضال مرير. أتساءل دائما: هل يَلزم وضع شرط قيام الخلافة الموحدة لتعود الأمة إلى سابق عهدها؟ أيُتصور اندثار مفاهيم الوطن والوطنية في يوم ما؟  ألا يمكن أن يتحول مفهوم الوطن وحَدُّ المواطنة إلى أساس عظيم للبناء؟ 
إن التمسك بالدين فضيلة وثروة، غير أن الافتتان به مصيبة وعلة. إن الفتنة بالدين، مثل باقي الفتن التي تجعلك تنظر بمبالغة شديدة إلى الشيء المفتون به، ولا تلتفت إلى ما يدور حولك من عجائب الدنيا. فالمفتون العجيب هذا لا يتحدث إلا بلغة الدين، ولا ينظر إلا من خلال زاويته، والصاخة هي أنه يسعى جادا إلى إلزام الجميع بقناعاته، ومن ثم يرى أنه الحقيق بالريادة من غير جهد، والمستحق للرياسة بلا انتخاب.   
بينما الدين نفسه يخشى الوقوع بهذا المنزلق الخطير، إذ فتح النظر على الأنفس والآفاق وتاريخ الأمم الأخرى استجلاء للعبرة وطلبا للعلم والخبرة.
إن المتأمل للتاريخ يدرك أن الأمة الاسلامية فقدت توازنها منذ القرن 17م، على الأقل، ومنحنى تطورها الانتاجي اتجه باضطراد إلى الانحدار، لا يتسع المجال للخوض في أسباب ذلك، لكن يكفي القول أن الأسباب كانت بالأساس ذاتية - داخلية.  
وفي نفس الوقت انخرطت الأمة المسيحية في مسلسل تجديدي ثوري، منذ القرن 19م، يتوق إلى التخلص من هيمنة البابوية والامبراطوريات المحافظة، وسلكت طريقا يُنَظِّر لإنشاء الوطن القومي وبناء الدولة الحديثة حيث يختفي الرعايا، ويُشرك الشعب في الاختيارات السياسية، وتُحفظ مقدرات الوطن، ويُحَكَّم الدستور والقانون، وتُتَوّج السلطة التشريعية أعلى سلطة في الدولة، لكونها تصدر عن الشعب، وإن كان النظام ملكيا.
وبعد الحرب العالمية الأولى(1914-1918م)، ستشهد الإمبراطوريات المحافظة، لا سيما الإمبراطورية العثمانية، تفككا بعد انهزامها في الحرب، وستَتَعزز الوطنية بمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير. ومع التغلغل الكبير للاستعمار في العالم الإسلامي سيعرف الأخير تجزئة رهيبة ليحتضن وطنا جديدا غريبا أعلن عنه الصهاينة بمساعدة بريطانيا سنة 1948.
ما يثير الانتباه في هذا المسار النضالي، السلوك السياسي للصهاينة وقدرتهم على التكيف السريع بهذه التطورات وتوظيف تناقضاتها لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية. 
 في هذه الظروف عرض "هرتزل"، مغتنما الأزمة، أموالا ضخمة على السلطان عبد الحميد الثاني(1842-1918) مقابل فلسطين. وعاشت أروبا أزمات اقتصادية وسياسية أفضت إلى حرب عالمية ثانية (1939-1945) ساعدت نتائجها اليهود بإقامة وطنهم القومي في فلسطين. 
وإذا استفاد الأوروبيين من التجزيء وظهور الوطن القومي، بالتخلص التام من تحكم الكنيسة، ثم سعوا إلى الوحدة، على أسس جديدة، ببناء متدرج للاتحاد الأوروبي، فإن العرب والمسلمين لم يمنحهم التجزيء في هذا السياق السياسي سوى الضعف والتخلف والهوان.
لكن المتابع لتوالي الأحداث، بخاصة بعد ربيع 2011، يلاحظ بداية تحول مفهوم الوطن والدولة الحديثة، الذي وظفته الصهيونية، إلى أداة قوة بيد قوى الخير والسلام والاستقرار، فأمسى كل من يتحرك بمنطق الخلافة الإسلامية، لا يجني لأمته سوى الهزائم والمآسي والويلات. وفي المقابل، كل من تمسك بالوطن ورضي بكل تراكماته السلبية، وآثر مصالحه القومية، ما فتئ يحرز تقدما ورُقِيا واستقرارا.   
ألا يدعو للدهشة سياق تأسيس دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام؟ ! ألم تُعلَن هذه الدولة عشية فوز التيارات الاسلامية الوطنية المعتدلة بالانتخابات عقب حراك الربيع؟ ! لا ريب في أنه تدبير عدائي متعدد الأبعاد، يوظف المخيال والمخزون العاطفي عند المسلمين، ثم يوحي بإمكانية إقامة الخلافة المفقودة على الواقع، لينتهي إلى إطفاء جذوة الايمان بإحراز التقدم عن طريق القواعد الديموقراطية.
على من يحمل اليوم مشعل التغيير أن يتخلص فورا من خطاب الخلافة، فالسياق التاريخي المعاصر يؤكد يوما بعد يوم على أن الخيارات الجذرية والشعارات الكبرى صارت أفكارا ومفاهيم تشجع رواجها القوى المعادية لنهضة الأمة. أما ما تأسس من تجارب انسانية على مفاهيم الوطن والمواطنة أمست المدخل الصحيح للبناء. نعم هناك من لا يحسن تنزيلها أو يخشى نتائجها أو يحاول تقويضها، غير أنها باتت تشكل أساسا نظريا راشدا، يساهم باحترام حقوق الإنسان ويضمن تداولا سلميا للسطة. 

شارك